سرد الأحلام، هبات المخاوف والرغبات، نجيب محفوظ نموذجًا، بقلم سيد الوكيل






بانوراما أدبية: مقالات سيد الوكيل- سرد الأحلام، هبات المخاوف والرغبات-نجيب محفوظ- فنون الكتابة

- قصة قصيرة، شعر، رواية، مسرح، سينما، دراما، أفلام، أغاني، فنون، مقالات، دراسات، أقلام، كتب، كتاب.

سرد الأحلام، هبات المخاوف والرغبات، نجيب محفوظ نموذجًا، بقلم سيد الوكيل
سرد الأحلام، هبات المخاوف والرغبات، نجيب محفوظ نموذجًا، بقلم سيد الوكيل



بقلم: سيد الوكيل


التراث الإنساني


عبر التراث الإنساني كانت الأحلام وتفسيراتها هاجعة في ظلال التفكير الميتافيزيقي حتى جاء (سيجموند فرويد) الذي نشر في العام (1900م) أولَ محاولة علمية لدراسة الحلم بوصفه نشاطًا آليًا في عمل الدماغ. وبهذا تدخل الأحلام في سياق التفكير العلمي وتنتج نظرياتها حول تشكل الحلم وأنماطه وآليات إنتاجه ومرجعياته بل وسيرورته لاستقراء دوره في التركيب النفسي للإنسان عبر تاريخه.

أكد فرويد أن الحلم مرتبط بالحياة الواعية. أو بمعنى آخر بالواقع المعيش ومن ثم فهو يكشف عن المقموع في الوعي ولا علاقة له بالنبوءات. هكذا يصبح الحلم خلقًا خياليًا مرجعه الواقع كأي نص أدبي، وفي نفس الوقت تعبيرًا عن المكبوت في اللاوعي بتأثيرات الواقع المعيش وتعدياته.


معنى هذا أن الحلم يقدم صورة عن الذات الإنسانية في وعيها ولا وعيها في آن، فيمنحنا هذا التداخل مساحة واسعة للتفسيرات والتأويلات.بمعنى أن الحلم يصبح نصا مركباً ومترابطاً، ومدججاً برموز وصور علاماتية وبهما تُمثّلُ المشاعر والمكبوتات. وهى تقريبًا نفس الآلية التي يعمل بها العقل المبدع. وفي النهاية فإن الأحلام تعكس صراع الإنسان مع محيطه السيسيوثقافي كأي نص أدبي.

لكن فرويد رسم للحلم مسارًا محددًا وعلميًا، فالوقائع والأحداث التي تسبق الحلم في يقظتنا، هي مجرد محفزات لتحريك المخزون الجنسي في لاوعينا منذ طفولتنا وهي تخرج أثناء النوم في صور رمزية. إنه صندوقنا الأسود الذي بداخلنا.




وقد ذهب كارل جوستاف يونج لأبعد من ذلك كثيرًا. لقد حرر الحلم من الارتباط الشرطي بالجنس وأكد لغته الرمزية. فاللاوعي عنده، هو تمثيل لوعي بدائي يرجع إلى طفولة الإنسانية. حيث الأساطير الأولى التي تفسر الوجود وتنتج نماذج قبلْية موجودة عند كل البشر. وهذه التمثيلات تمضي في سيرورة رمزية عبر التاريخ لتسكننا، وهي شديدة المراوغة ذات طبقات ومستويات عدة. ومن ثم فهي محملة بكل رموز التاريخ البشري وليس الرموز الجنسية فقط. فالنار والنجوم والماء والبيوت والمعابد والترحال والموت وغيرها الكثير. هي رموز قد تظهر في الحلم ويجب أن تقرأ في سياقها الموضوعي -وليس على إطلاقها - تماما كما نقرأ نصا سرديا. فللحلم بنية كلية مثل أي نص تترابط علاماته فيما بينها.



عالم النفس المصري (يحيى الرخاوى) قرأ الحلم بوصفه نصًا أدبيًا. في كتابه (عن طبيعة الحلم والإبداع) عند نجيب محفوظ يرى: "إن الأهم من البحث عن الرمز هنا وهناك. هو رصد هذه النهايات المفتوحة بشكل تشكيلي محرك لوعي المتلقي" والشاهد في كلام الرخاوي أن التعامل مع الأحلام المسرودة كتابةً لا يكون بتفسيرها الرمزي كما في أحلام النوم، ولكنها قراءة تشمل كل طرائق وأساليب تشكيل الحلم بوصفه نصًا أدبيًا. ولأن الأحلام هي أكثر آليات اللاوعي اشتغالاً في حياة البشر فحضورها السردي شائع سواء كانت مضمرة في ثنايا العمل الأدبي،أو مقصودة لذاتها كما في أحلام فترة النقاهة.






إذ كان الرخاوي على علاقة وثيقة بمحفوظ، أصبحت أكثر عمقا خلال فترة النقاهة التي رافقه فيها، كي يساعده على الخروج من حالة الاكتئاب العميق الذي لازمه إثر محاولة الاغتيال، وهي تلك الفترة التي أسفرت عن آخر أعمال محفوظ (أحلام فترة النقاهة) مما أتاح للرخاوي الوقوف على جذور النزعة الحلمية في كتابات نجيب محفوظ. مؤكدا أنها كانت ممتدة ومتنوعة في طبقاتها ومستوياتها، فاهتزت في (عبث الأقدار 1939م) وربت في (رأيت فيما يرى النائم 1982م ) وأتت أكلها خلال فترة النقاهة إثر محاولة اغتياله التي أدخلته في سحابة اكتئابية. تشبه أزمة عمر الحمزاوي في رواية (الشحاذ) الذي خاض رحلته الداخلية عبر بنية حُلمية أقرب إلى التصوف لتسمح بفضاء سردي متجاوز لحدود الواقع. وهو نفس ما حدث مع محفوظ خلال فترة اكتئابه. إذ لاحظ الرخاوي أن "أول ما خطت يد محفوظ -مع بداية تعافيه - له رائحة الأحلام"بما يعني أن استغل فترة النقاهة للتحديق في واقعه الداخلي.








نجيب محفوظ
سرد الأحلام، هبات المخاوف والرغبات، نجيب محفوظ نموذجًا، بقلم سيد الوكيل









كان السرياليون قد التفتوا إلى أهمية توظيف اللاوعي وآليات إنتاج الحلم معتقدين أن الانهماك في الواقع يعمق عزلة الفنان عن ذاته ومن ثم يتحول الإبداع إلى وظيفة فاقدة للروح. وتقوم فلسفتهم على إخضاع الكتابة لقوة داخلية تقهر الوعي وتسمح بانفلاتات محسوبة للاوعي. فثم اعتقاد أن قوانين الواقع فرضت على الإنسان أن يعيش عبر أقنعة. والمبدع السريالي الذي يسعى لاستنطاق اللاوعي يهدف إلى تحطيم هذه الأقنعة وتحرير الداخل بإطلاق الصور والأخيولات والرؤى السجينة فيه. ويمكننا ملاحظة أن هذه الوظيفة التي يسعى إليها المبدع السريالي وثيقة الصلة بالوظيفة التعويضية التي تحدث الاتزان عند (يونج) أي أنها وظيفة ذاتية تخص كاتبها وتفرض عليه تدريبات تأملية للاستبطان واستقراء الداخل مع قدر كبير من الشجاعة على مواجهته واحترام مخرجاته مهما كانت مؤلمة أو مخجلة أو حتى مخيفة وغير مفهومة. ولعل هذا ما يقصده (الرخاوي) بأن فترة النقاهة أتاحت لمحفوظ فرصة لكي يحدّق بداخله.




وسواء كانت وظيفة الأحلام فضح المقموعات التي تسكننا كما يذهب (فرويد) أو إحداث الاتزان من قبيل التعويض النفسي كما عند (يونج) فإن كتابة الأحلام يمكنها أن تقوم بهذا الدور على نحو آمن. فهي ليست مجرد نشاط أدبي بقدر ما هي مواجهة مباشرة مع ذواتنا. واستنطاق للا وعينا وتحريره من تراكمات رحلة وجودنا. لذلك فكتابة الأحلام هي رحلة استشفاء وتجديد لطاقة الحياة. ربما لهذا اختار نجيب محفوظ أن يسميها: أحلام فترة النقاهة.




التأكيد على معنى الذاتية في سرد الأحلام قد يوحي للبعض أنها لا تخص سوى كاتبها. ومن ثم يسقطون ما في الحلم على شخص الكاتب. هذا احتراز مهم يطرحه (الرخاوي) في إشارته إلى الحلم رقم (10) من أحلام فترة النقاهة فهو على نحو تهكمي لا يخفي تخوفه من أن يسعى أحد الفرويديين إلى إحالة الطيران في نهاية الحلم إلى مغزى جنسي متعسف ويسقطه على شيخ يغالب نقاهته.




صحيح أن (كارل يونج) يتفق مع (فرويد) على ذاتية الحلم نتيجة لارتباط اللاوعي بالتاريخ الشخصي للحالم. وهذا في حد ذاته كاف لأن يجعلها تجربة إبداعية إلا أن (يونج) يؤكد على أن لغة الأحلام تستمد طاقتها الرمزية من عالم أبعد كثيرًا من التجارب الذاتية. فترجع إلى عالم بدائي سحيق قبل أن تبدأ الحضارة الإنسانية في تشكيل منظومة القيم والمحرمات والعادات والتقاليد الاجتماعية التي كونت النسيج الثقافي للمجتمعات وأفضت إلى التمايز فيما بينها. هذا يعني أن هذه اللغة البدائية والتي يسميها (إيريك فروم) اللغة المنسية كانت مشتركة بين كل البشر. وهي مازالت كامنة في اللاوعي وصالحة لتفسير الأحلام. بل وقراءة هنات الوعي وزلات اللسان وتعبيرات الجسد اللاإرادية. وهذا يفسر وجود أحلام مشتركة في موضوعاتها بين البشر. فغير أحلام الطيران هناك السقوط من المرتفعات والاحتجاز في الأماكن الضيقة. أو التيه في أماكن غريبة. أو التعري بين الغرباء. أو الخوف من النار التي تعتبر من أشهر الرموز البدائية التي حظيت بالاهتمام في التحليل النفسي على نحو ما تناولها جاستون باشلار. ولذلك تظل أهمية الحلم مرتبطة برموزه كما هي مرتبطة بموضوعه. بل وبحبكته سواء جاءت مفككة على هيئة صور متناثرة أو جاءت عبر وقائع وأحداث متسقة فيما بينها. ومع ذلك فحتى الأحلام المشتركة في موضوعاتها بين البشر تحظى بخصوصية ترتبط بالتجارب النفسية والممارسات الحياتية لحالميها. فأطفال المدارس مثلاً، قد تراودهم أحلام التأخر عن مواعيد المدرسة أو نسيان الحقيبة المدرسية أو كراسة الواجب. لكن تفسير مثل هذه الأحلام يعتمد على رمزية موضوع النسيان لا النسيان نفسه. فمثلاً :نسيان التلميذ للواجب المدرسي قد يعكس معنى تعويضيًا يحرره من الخوف.وينتصر به على سلطة أستاذة.


إن رموز الأحلام ذات مستويات وطبقات متعددة، تمنحنا فرصًا لتأويلات وتفسيرات متعددة للحلم الواحد نتيجة التماهي في المسافة بين الذاتي والموضوعي. وهو نفس ما نفعله في قراءة النص الأدبي عندما يتداخل الحقيقي مع المجازي أو الواقعي مع المتخيل.




مما سبق نفهم أن الحلم هو الآلية البشرية الأقرب إلى الكتابة وكأننا نكتب ذواتنا في الأحلام. وهو ما يؤكده (باشلار) بأن أحلام اليقظة _ ويقصد بها اللحظة التي يتحرر فيها اللاوعي من سلطة الوعي _ هي شرارة الإبداع. وهكذا فالأحلام لها قابلية الحكي والتأويل كأي تجربة واقعية نعيشها لهذا فتوظيف بنية الحلم وآليات إنتاجه في نص سردي ممكنة ومقبولة. إذ يمكن أن تكون سردًا مستقلاً ومميزًا في حد ذاته على نحو ما كتب نجيب محفوظ (أحلام فترة النقاهة) فأنتجت شكلها الخاص سواء في كثافتها ودلالتها الوامضة، أو في لغتها الرمزية المنفتحة على التجربة الإنسانية الشخصية والعامة في آن أو في طاقتها التخييلية المتجاوزة لحدود الواقع.




كما أن قراءة الأحلام مثل كتابتها، فهي من ناحية تنطق بتجارب إنسانية مشتركة، لكنها تبقي على الجزء الذاتي لكاتبها. وهذا الجزء الذاتي هو الذي يعطيها قابلية التأويل المتعدد عند القراءة ويشملها بالسحر الذي نجده في النص الأدبي.




صحيح أن الكثير من قراء ( أحلام فترة النقاهة) استخدموا آلية الإسقاط على الواقع الاجتماعي لتفسير كما نجد في الحلم رقم (4) فثم من اعتبر أن شخصية الزعيم التي ظهرت في الحلم تحيل إلى جمال عبد الناصر. وهو تفسير مقبول ولكنه مباشر وضيق. أما الدكتور (يحي الرخاوي) الذي جمع بين خبرة عالم النفس والأديب فيدرك أن رمزية الحلم قد تمتد إلى زمن سحيق في الفكر الإنساني. فالزعيم يمكن أن يكون له بعد إنساني واسع لأسطورة البطل المنقذ التي تتجلى في فكرة النبي أو المهدي المنتظر أو المسيح المخلِّص. كما يمكن وفقًا لآلية التمويه في الأحلام أن يتماهى المسيح المخلص بالمسيخ الدجال وفقًا للأسطورة أيضًا. أي أن الرمز قد يحمل المعنى ونقيضه بفضل آلية التمويه التي يمارسها اللاوعي.




هذا التركيب الخاص لسرد الأحلام يجعله مختلفًا عن الواقعية السحرية كونها إعادة إنتاج لتراث الإنسانية الغرائبي، يغيب فيها المعنيين الشخصي والذاتي. كما أنه يختلف عن السريالية التي تمثل بناءًا مجردًا من أي بعد واقعي يحمل المضامين الانفعالية والفكرية على نحو تلقائي وخارج عن أي انشغال جمالي أو موضوعي. أما الحلم فله سمات أكثر مرونة وتعقيدًا في نفس الوقت. حيث يلتبس بالوقائع والحقائق والأشكال المرئية بالعين. لهذا قد تبدو بعض الأحلام منطقية ومتماسكة فيمكن تذكرها وحكيها ومن ثم كتابتها. لكن علماء النفس يعتقدون أن ما نتذكره بعد يقظتنا من الحلم لا يمثل سوى نسبة ضئيلة جدًا من الحلم نفسه. بمعنى:حينما نحكي حلما فنحن نعيد إنتاج ما رأيناه بتداخلات من الوعي الذاتي وخبرات لتفسيرات سابقة لنا أو لآخرين.





سرد الأحلام، هبات المخاوف والرغبات، نجيب محفوظ نموذجًا، بقلم سيد الوكيل
مؤلفات سيد الوكيل عن نجيب محفوظ







أما كتابة الحلم فهي ليست مجرد توثيق لحلم رأيناه بقدر ما هو خلق إبداعي متكامل ومستقل يلتزم بشروط الأدبية من حيث التعبير والبناء والتشكيل المنبثق عن خيال يقظ. ذلك الذي يطلق عليه (باشلار) شعرية أحلام اليقظة. فمن قبيل السذاجة الظن بأن نجيب محفوظ في شيخوخته و نقاهته راح يتذكر كل هذا العدد من الأحلام ليكتبها كما هي. إنما هي إفادة من خبرات سابقة في استنطاق اللاوعي وتوظيف آليات إنتاج الحلم. وتلك أساليب وتقنيات نراها في كثير من أعماله السابقة. مكنته من اعتبار كتابة الحلم فنًا أدبيًا مستقلاً بذاته.


Post a Comment

أحدث أقدم