هِكتور الإسباني


بانوراما أدبية: قصة قصيرة، هوشنك أوسي، شعر، رواية، مسرح، سينما، دراما، أفلام، أغاني، فنون، مقالات، دراسات، أقلام، كتب، كتاب.


هوشنك أوسي
هوشنك أوسي



قصة: هوشنك أوسي 


شاعر وروائي


 اشترى ثري ينحدرُ من أسرةٍ نبيلة عجلاً صغيرًا من فصيلة (Toro de lidia)، بنيَّ اللّون، يميل إلى الشُّقْرة، لم يمضِ على ولادته أسبوع، ويزن 33 كيلوغرامًا. صار يربِّيه في مزرعته الخاصَّة. يمسك بالرَّضَّاعة ويلقمهُ حلمتها البلاستيكيَّة. يغسلهُ، يلاعبهُ، يركضُ معهُ في ساحة المزرعة التي لم تكن لتربية أو تسمين الأبقار أو العجول. لديهِ عُمَّال في المزرعة، إلاَّ أنَّه يستمتعُ بتربية "هِكتور" والعناية به. هكذا سمَّاه؛ تيمُّنًا بأمير "طروادة" الذي رفض الحرب، وشارك فيها مُكرهًا، وقُتِل.

كَبُرَ العجلُ كطفلٍ مُدللِ في كنفِ والدهِ، ضمن مزرعةٍ من الحبِّ والمودَّة والعناية والرِّعاية. أصبح ثورًا عظيمًا مهيبًا، غير مخصي، يزِنُ 500 كيلوغرام تقريبًا، بقرنين معقوفين مدبَّبين، إلاَّ أنَّه غير عدواني أو شرس، بل طيِّع ومسالم، لا يشكِّل أيَّ قلق أو متاعب لصاحبهِ ولعمَّال المزرعة. 

هكذا، أمضى "هِكتور" سنتين كاملتين في ضيافة صديقهِ وصاحبهِ، لم يرَ أثناءهما أيَّة بقرة، ولا يعرف أنَّ هناك على هذا الكوكب كائنات جميلة تشبههُ، اسمها أبقار. فجأةً، وجدَ نفسه مطرودًا مِن الجنَّة التي كان فيها! بعد كلِّ ذلك النَّعيم والدَّلال، نُقِلَ إلى حظيرة بائسة، وبقي هناك أسبوعًا. في مساء 30 إبريل 1976 أدخلوه ملعب "دي لاس فينتاس" (de Las Ventas) المبني على الطراز العربي في مدريد. وسط صياح الجماهير الجالسة على المدرَّجات وهياجها، كان في استقباله المصارعُ الإسباني المعروف خوان إيميليو سانشيز؛ ذلك الثّري الذي اشتراهُ، حين كان عِجلاً صغيرًا. 

صحيح أنَّ "هِكتور" لا يميِّز الألوان، إلاَّ أنَّه تعرَّف على صديقه. اقتربَ منهُ بهدوء، كالسَّابق. لم يرَهُ ذلك الودود الذي يداعبهُ بلطفٍ ويلاعبهُ. إنَّهُ شخصٌ آخر؛ يصرخُ فيه، ينظرُ إليه بغضب، يناديه للنِّزال والقتال، يحاول استفزازهُ بحركات بهلوانيَّة ساخرة، يلوِّحُ أمامهُ بخرقةٍ حمراءَ، من دون أن يحرِّك كلُّ ذلك لديهِ ذرَّة غضب.

استغربَ الجمهورُ برودة أعصاب الثَّور، واعتبروهُ بليدًا كسولاً! صاروا يصرخون أكثر. متعتهم في رؤية أحدهما يقتل الآخر، لكن الثَّور رفضَ قتال صاحبهِ وصديقهِ. ما جرى، كان غريبًا حقًّا! 

دخل ثلاثة من معاوني خوان الحلبةَ على أحصنتهم. صاروا يستفزُّونهُ، يغرسون حرابهم في حدبته. وأخيرًا؛ أيقظوا النُّزوع العدواني في "هِكتور" من سباته. صار يهاجم المصارعين الآخرين، ولا يكترثُ للواقف في السَّاحة؛ خوان. مع ازدياد الحِراب في ظهره، وتفاقم الجراح والنَّزف، لم يتوقّف الثّور عن الجري وراء الأحصنة، ظنًّا منه أنَّ المصارعين على صهوات أحصنتهم وحوشٌ تهاجم صديقهُ، فأرادَ الدِّفاع عنهُ. كلَّما حاول خوان الاقتراب منهُ، يتجاهلهُ "هِكتور"، ويركض في اتجاه الآخرين. مشهد غريب، سريالي، لم يحدث، ولن يتكرَّر. بعد مضي نصف ساعة من لامبالاة الثّور، غرسَ خوان حربة في ظهر الثّور. للحظات، توقَّفَ عن الرّكض. استدار نحو صديقه القديم. نظر إليه بعينين منكسرتين، كأنَّه يبكي. أطلق خوارًا عظيمًا، ثم سقط على الأرض. ازدادت غرابة الجمهور والمصارعين معًا. ما زال باكرًا على مصرع الثّور، فلماذا سقط؟!

اقتربوا منهُ، وإذا بهِ من دون حراك، والدَّم ينزف من فمهِ وخياشيمهِ، كأنَّ نزيفًا داخليًّا حدث له. مات "هِكتور". تراجيديا ماثلة أمام أعين آلاف المشاهدين المصدومين ممَّا رأوْهُ! كأنَّ إحدى أساطير الأقدمين تتجسَّد في حلبة "دي لاس فينتاس"! 
بدأت الأحصنة تجرُّ "هِكتور" إلى خارج الحلبة، وسط تصفيق قليلٍ مفتعل قام به الجمهور على مضض. لم يكن معروفًا أهو تصفيق لشجاعة المصارع الذي قتل ثورًا من دونِ طعنهِ طعنةً قاتلة؟ أم للثّور على نجاحه في تأدية دور مسرحي بإتقان؟!
خوان أيضًا، مذهولٌ ممَّا رأته عيناه. واقفٌ كصنم، وسط الحلبة. موجودٌ في المكان، وغائب عنهُ. صار يسأل نفسه لماذا فعلَ كلَّ ذلك؟! لماذا أتى بالعجل وربَّاه وجعلهُ ثورًا، وأودى به في حلبة الصِّراع؟!

فجأةً، انتبه إلى جرِّ جثَّة "هِكتور" خارج الملعب. لحق بها، ورفضَ منحها للجزَّارين الذين ينتظرون أخذ الثِّيران المقتولة إلى المَسلخِ. أعاد خوان ثورَهُ إلى جنَّتهِ، مزرعته، مقتولاً. صار يبكي بحرقةٍ ومرارةٍ بُكاءَ أبٍ على فقدانهِ طفلَهُ في الحرب. وكعقاب لنفسهِ، أمر خوان بتحنيط "هِكتور" ووضعه في صالون منزله؛ لئلا ينسى جريمته. 

ذكرتِ الصُّحفُ خبرَ اعتزال المصارع خوان إيميليو شانشيز وهو في أوج مجدهِ، مع سرد مجريات تلك الواقعة كاملةً. وأضافت الصُّحفُ تفصيلاً مجهولاً، أو ربّما نسيهُ النَّاس، عن حياة المصارع الإسباني الكبير، مفاده: أنَّه ورثَ عن أبيهِ مصارعة الثِّيران، وتلك المزرعة الجميلة. والدهُ المصارع الكتالوني الذي ذاع صيتهُ في العالم، قبل وبعد مقتله في حلبة المصارعة. وقتذاك، كان خوان في السَّادسة من عمرهِ، جالسًا معه أمِّه باولا، على مقاعد المتفرِّجين، يتابعون تلك المعركة الرّهيبة بين والدهِ وثور مقاتل. نظرًا للبسالة والشّجاعة التي أبداها الثّور؛ طلبَ الجمهور من المصارع أن يَعدل عن قتلهِ، فاستجاب. أثناءَ تأديتهِ التحيَّة للجمهور، غافلهُ الثورُ وعاجلهُ بطعنة رهيبةٍ مميتة في ظهرهِ، جعلت قرنهُ يخرج من صدرِ المصارع. لم يكتفِ بذلك؛ بل حملَ الثورُ ضحيَّته على قرنيه، وصار يجري في الحلبة بجنون، كأنَّهُ يستعرضُ قوَّته وجبروتهُ، مأخوذًا بنشوةٍ النّصر، وسط ذهول ورعب المتفرجين. حاول المصارعون المساعدون الانقضاض على الثّور القاتل، وإنقاذ زميلهم، لكنهُ مات، بتلك الطّريقة الغادرة الفظيعة. جرى ذلك أمام عيني خوان ووالدته، في 30 إبريل 1956 وداخل حَلَبَة "دي لاس فينتاس".

ظنَّ الطفل أنَّ ما يشاهدهُ، مع بكاء أمِّهِ وصراخها، هو مجرَّد لعبة، ستنتهي ويعود ثلاثتهم إلى بيتهم معًا. لكنهما عادا، بينما ذهب والده إلى مكان بعيد، ولم يعد.

بعد قرار اعتزال خوان إيميليو شانشيز، حاصرتهُ موجةُ اكتئاب شديدة؛ ما أجبرهُ على دخول مصحَّة نفسيَّة لستَّة أشهر. بعد عودته إلى الفيللا الخاصَّة به وجد "هِكتور" في الصَّالة، كأنَّه يستقبله، بنظرات العتب والخيبة والأسف.

في 30 إبريل 1995 أنهى خوان إيميليو شانشيز حياته، عن عمر ناهز الخامسة والأربعين، وترك وصيةً غريبةً لزوجته وطفليه؛ أن يُدفنَ في جسد "هِكتور" بعد تفريغهِ من مواد التّحنيط، ويتمَّ دفنهما معًا في قبر واحد. واختتم وصيَّته بالقول: "يالكم من سعداء لأنَّكم لم تروني مقتولاً في حلبة المصارعة!".

5/6/2023 – أوستند


1 تعليقات

إرسال تعليق

أحدث أقدم