خيري عبد الجواد، أمير التراث الشعبي

 

خيري عبد الجواد

خيري عبد الجواد 


بقلم: سيد الوكيل

لو نظرنا إلى بناء الحكاية الشعبية ، نجده قريب الشبه من بناء القصيدة العربية القديمة ، الاهتمام بوحدة البيت والقافية والوزن، ومع كل هذه الوحدات ، تغيب الوحدة الموضوعية ، بل وتظهر الرغبة جامحة فى تعدد الغرض الشعري ، وتؤسس هذه المظاهر لطابع غنائي مرن ، وتحيل القصيدة إلى فضاء مفتوح يمكن الشاعر من التنقل بحرية بين الأزمنة والأمكنة والمعاني حتى ليبدو كل بيت بداية لمعنى شعري جديد، فالبنيات الصغيرة تحكم القصيدة، ويكتمل البناء الكلى بالتجاور وتوالد المعاني ، هكذا الحكاية الشعبية تقوم ـ في أهم خصائص بنيتها ـ على وحدات صغرى تتجاور وتنتج معانيها، في ظل غياب ما يعرف بالحبكة الدرامية، وحيث الحبكة مفهوم قديم له جذوره الأرسطية مرتبطاً بطبيعة الوحدات الثلاث الكبرى، وهو ما يتسق مع سيطرة الذهنية الهندسية للعمل الفني ، وإخضاعه للمنطق العقلي والقياس، من حيث أن مفهوم الجمال مرتبط بالتناسق الهندسي.


 أما الحكاية الشعبية فهي أميل إلى انتهاك الحبكة ومخاتلة المنطق الذهني إلى خطاب حسي عجائبي، ومن ثم يمكن للسرد التخلص من حاكمية الزمان والمكان. ونستطيع أن نلاحظ هذا التحرر من سطوتي الزمان والمكان في الواقع المعيش  وليس في السرد فحسب، ففي ظل عالم القرية الواحدة، وخضوعا لسياسات العولمة، أصبح كل  ما يحدث  هنا والآن، بمعنى أن ما يحدث في أي مكان يترك أثراً على العالم كله، فبوسعنا أن نرقب الحدث -مهما كان حجمه ومكانه وزمانه- ونحن متكئين على الأراك في بيوتنا. لقد أصبح مشهد سقوط برج التجارة العالمي في أمريكا رمزا لتماهي المسافات الجغرافية والزمانية. ولعل الحكاية الشعبية، تمتلك نفس السمة، فهي تتنقل عبر الشفاهة، بين البيئات المكانية والحضارات التاريخية، وتمتلك قدرة على الانفراد بنفسها، ومن ثم التحول والتطور، فتذوب هويتها الدالة على مكان وزمان نشأتها وتصبح ملكا لمن يشاء. هذه درجة من المرونة تتوفر في الحكاية الشعبية، لا نجدها في أي من أشكال السرد الحديث المكتوب. 


والطريف أن السارد العربى الحديث، لم يلتفت إلى منطق الحكاية الشعبية إلا بعد اطلاعه على تجارب الإبداع الأدبي في أمريكا الجنوبية ،وما واكبه من بروز لمفهوم الواقعية السحرية، ومن ثم نشط السرد العربي في محاكاة، أو قل في استلهام الجذور الأولى في السرد العربي القديم متمثلاً فن الحكاية الشعبية، ويعد الروائي خيري عبد الجواد من أبرز المعاصرين الذين اتجهوا إلى بناء الحكاية الشعبية وأفادوا منه في مجمل كتاباته، ومنذ البداية  على نحو ما نرى في مجموعته القصصية الأولى ( حكايات الديب رماح)  ثم توالت أعماله في توظيف التراث الشعبي، سواء الشفهي أو المكتوب، مدعومة بمعارف ودراسات وأبحاث على نحو ما نرى في جل أعماله:


القصص القصيرة

1 – حكايات الديب رماح(ط1 هيئة الكتاب 1987 – ط2 مركز الحضارة العربية 1995 – ط3                      مكتبة الأسرة 2008)

2 – حرب أطاليا (ط1 هيئة الكتاب 1988 – ط2 مركز الحضارة 1998).

3 – حرب بلاد نمنم (ط1 مركز الحضارة 1997).

4 – قرن غزال (ط1  دار سندباد 2002 – ط2 هيئة الكتاب "مكتبة الأسرة" 2004)

5– حارة علي أبو حمد (بعد رحيله) ( النهضة العربية 2009).

6 – سلك شائك (بعد الرحيل) (الدار المصرية اللبنانية 2010).

الروايات

1 كتاب التوهمات (ط1 هيئة الكتاب 1992).

2 – العاشق والمعشوق(ط1 دار شرقيات 1995 –ط2 هيئة الكتاب "مكتبة الأسرة" 1996 –ط3 مركز الحضارة العربية 1998 – ترجمت للفرنسية "دار جاليمار 1998- ط4 نهضة مصر 2009).

3 – مسالك الأحبة  (ط1مركز الحضارة 1997).

4 – الجني (ط1 هيئة الكتاب 1999).

5 - يومية هروب (ط1 مركز الحضارة 1999 – ط2 دار الانتشار العربي بيروت 2000).

6 – كيد النسا (دار الآداب – بيروت 2006).

 

 كتب تراثية

1 - سيرة علي الزيبق (مقدمة ودراسة للنص – هيئة الكتاب 2003).

2 – نزهة المشتاق في حدائق الأوراق (بعد الرحيل) (دار العين  2008).

3 – القصص الشعبي (3 أجزاء ) (بعد الرحيل) (دار الجمل- بيروت 2010).

 

الأعمال الكاملة 3 أجزاء (بعد الرحيل)(هيئة الكتاب 2014).

 

 

كيـد النسا نموذجـاً

 كيد النسا : هو عنوان روايته الأخيرة التي صدرت عن دار الآداب في بيروت ، وهو عنوان مستلهم من أغنية للشاعر الشعبي ابن عروس يقول فيها: (كيد النسا يشبه الكي / من مكرهم رحت هارب / يتحزموا بالحنش حي / ويتعصبوا بالعقارب ).  وابن عروس نفسه شخصية عجائبية، وجودها غير موثق زمنياً ومكانياً، فالغالب أنه عاش بين مصر والمغرب وتونس، ويذكر إنه كان قاطع طريق، شأن بعض من أبطال الحكايات الشعبية أمثال على الزيبق الذين اختلطت سيرتهم بحكايات آخرين، وتفاوتت بين الواقع والمتخيل، وإذا كانت سيرة ابن عروس تفاوتت بين مصر والمغرب العربي، فإن سيرة على الزيبق تفاوتت بين مصر وبغداد، بما يؤكد هذا التداخل والخلط في جذور الموروث الشعبيي عن الحكايات والسير وأبطالها، سواء على مستوى أزمنتها أو أمكنتها. لهذا فلا نندهش عندما يجعلا الكاتب حكاية بطل ( كيد النسا) تدور في حي بولاق الدكرور،  وفيه وقع  في العشق، فتاب وأناب، وتغنى بالحب والحكمة حتى بلغ ـ في الضمير الشعبي ـ مرتبة الأولياء والصالحين.


  هكذا، يستلهم خيري عبد الجواد بطل روايته ( كيد النسا) من شخصية ابن عروس، ويطلق عليه (نورالدين) وهو الاسم الذي انتهى إليه بعد أن  بدأ حياته ضالاً وقاطع طريق، لكنه انتهى ولياً، له  ضريح في حي بولاق الدكرور، يحتفل بمولده كل عام.


 وسيرة نور الدين توضح لنا، كيف أن الثقافة الشعبية مازالت تعمل بمنطقها، وتنتج أبطالها، وببعض الحيل الفنية، ينجح المؤلف في أن يجعل من سيرة نور الدين معادلاً ثقافياً لسيرة المكان، الذي هو حي بولاق الدكرور، لكن المؤلف لا يكتفي بذلك، بل يجعل نفسه شاهداً على هذه السيرة أي أنه يحضر بذاته في زمن نور الدين، ثم يستحضر زين الدين إلى زمنه ومكانه ( حي بولاق الدكرور)، والنتيجة أن الرواية تتحرك حول ثلاثة محاور رئيسة ( سيرة المكان ـ سيرة نور الدين ـ سيرة خيرى عبد الجواد)  وبالطبع  يستطيع السرد أن يتحرك ببساطة بين المحاور الثلاثة، أي أنه ينتقل من مستوى الخطاب الشعبي إلى مستوى الخطاب السيرذاتي، وبمعنى آخر  من زمن السيرة الشعبية إلى زمن السيرة الشخصية، وبمعنى ثالث، أنه يمزج بين واقع الحكاية الشعبية بطابعها الغرائبي وعمقها التراثي، وبين الواقع المعاش في حيزه الآني المعاصر.


الراوي يتميز بحضور كثيف داخل الرواية، سواء في صورته التقليدية بوصفه جزءا من الرواية وشاهدا على أحداثها، أو في صورة المؤلف، وهى الصورة الأقرب  لتجسيد شخصية خيري عبد الجواد الذي نعرفه كباحث في الثقافة الشعبية وكاتب روائي، يمتلك وعياً وقدرة على تحليل ونقد الخطاب الشعبي ، ففضلاً عن السيرة الذاتية فنجد للمؤلف نظرات وتعليقات على شخصيات روايته، ويمكّنه هذا من أن يعرض علينا ثقافته الشعبية مثل طرق عمل السحر ولغته، وبعض الأدعية المتعلقة بإبطال السحر الأسود.


ينجح خيري عبد الجواد في أن يجعل سيرته الشخصية جزءًا  من السيرة الشعبية لولى الله نور الدين ، الذي يصبح ضريحه علامة على تاريخ المكان وشاهداً عليه، بعد أن تغيرت معالمه بطغيان المدنية والتطور، ليعيش الناس أسطورة الحداثة، وينسون ـ تماماً ـ أساطيرهم التي صنعوها بأنفسهم.


وهنا يأتى دور الراوي كمنعش للذاكرة الشعبية وحافظ لتراثها وهويتها، ويتجسد هذا بزخم هائل من الحكايات الشعبية التي ارتبطت بشخصيات الرواية، منها حكاية بديعة  التي سحرت للشاب نور الدين حتى وقع في غرامها، ونجحت في أن تحيله من قاطع طريق إلى ولى صالح وكانت قد رأت ما بداخله من قوة وسمو فآمنت به وجعلت مهمتها جلاء بصيرته، وكأن ترويض الرجل كان مهمة نسوية بالأساس، وليس العكس كما رأى شيكسبير في ترويض النمرة أن مهمة الرجال هي ترويض النساء ، والحقيقة إن العشق كمدخل نسوى لترويض الرجل ملمح شهير في الثقافة الشعبية، نلاحظه ليس في ألف ليلة وليلة فحسب، على نحو ما نجحت شهرزاد في ترويض شهريار، بل وفى كثير من السير الشعبية، إذ يكفى أن نتخيل ما المصير الذي يمكن أن يلحق بعنترة بن شداد ما لم يكن قلبه قد امتلأ بحب عبلة، جبار طاغية حاقد على المجتمع بلا ريب.


وإذا كانت هذه هي النظرة في الحكاية الشعبية للمرأة، فمهما كان هامشية دورها إلا إنها تبدو المحرك الأول لكثير من الأحداث، ومع ذلك  فصورة المرأة في الحكاية الشعبية اتسمت باحتجاجات صارخة من قبل الخطاب النسوي المعاصر، ومن ثم يمكننا تصور أن رواية خيري عبد الجواد التي تنطلق من أكثر المقولات فظاظة في وصف المرأة ( كيد النسا يغلب كيد الرجال )  تنتصر ـ في النهاية ـ للمرأة عندما تعمد إلى التحليل السردي للمقولة.  والحقيقة  أن الحكاية الشعبية  بوصفها خطاباً هامشياً ، هي أكثر أنواع الخطاب السردي انتصاراً لهامشية المرأة، وتمرداً على حاكمية السياق الراوائي المعاصر الذي يستمد سلطته من مركزية الوعي الذكوري كما جسدته الثقافة الأوربية عبر تاريخها.


والجدير بالذكر ، أن رواية شيفرة دافنشى  لـ ( دان براون) جعلت أبرز أهدافها  في الكشف عن التاريخ السري في التآمر الذكوري على المرأة، فالكنيسة الغربية نجحت في طمس معالم الحضور النسوي، بل ومحوه من ثقافة العالم الحديث، غير أن هذا الموضوع له مناسبة أخرى، أما الآن ونحن بصدد الكلام عن رواية كيد النسا فتجدر الإشارة إلى أن الرواية  التي استلهمت بنية الحكاية الشعبية، فبدت ضرباً من الحكايات الشعبية الساذجة والمفككة، تحمل في صميم تكوينها وعياً جديداً ومثيراً لاهتمام النقد الثقافي، شريطة ألا يتوقف اهتمامنا بها، عند حدود الاهتمام بالبعد الغرائبي تيمنا بالواقعية السحرية.

 

أصل الحكاية وختامها

 

كان خيري عبد الجواد ( رحمة الله عليه) نموذجًا مبكرًا لجيل كان راغبًا في طي صفحة الماضي بكل نجاحاته وإخفاقاته. وكانت الحياة الثقافية شأن كل حياة المصريين، قد دخلت منعطفًا مظلمًا بعد نكسة 67. منعطف كثقب أسود، اتسم باهتزاز اليقين، ونظرة غاضبة إلى الوراء، ونزعة تشاؤمية عبر عنها الابنودي بأغنية (عدى النهار.. والمغربية جايه.. تتخفي ورا ضهر الشجر..). ربما هذه المعاناة هي التي دفعت تجربة هذا الجيل إلى نضج مبكر. بدأت معالمه تظهر بعد تحرير التراب المصري، برغبة ملحة في طي صفحة الماضي، والبحث عن معنى جديد للكتابة.


على أيه حال، كان العالم قد بدأ في التخلص من (دجمائية) الواقعية المؤدلجة برافديها النقدي والاشتراكي، تلك التي أفرغت الأدب من طاقة الخيال اللعوب، وقولبته في أنماط فقدت طعمها من فرط استخدامها. ربما كان حدس المبدع قبل وعيه، هو الذي دفع خيري عبد الجواد ليطرق باب الخيال مبكرًا (1980م) مع أول قصه نشرها في مجلة الجديد، ثم يدخله بكل ثقة مع أول مجموعة قصص له (الديب رماح) التي صدرت عام (1986م) ليصبح أيقونة ترمز لشغف جديد يبحث عن خصوصية تميز تجربته.


 في الواقع،كانت الثمانينيات محطة للتجريب والبحث عن مذاق أدبي جديد. كنا قد انتهينا لتونا من حربين (67 -73) تركتا آثارًا فادحة على الواقع المصري. ندرك أن الشعارات الثورية لم تعد كافية لرأب الصدع الذي أصاب المجتمع، وشرخ نفوسنا من الداخل. فكان ثمة ضرورة لجيل بعضه ينظر إلى الوراء بغضب، وبعضه نجا من جبهات القتال بروح منطفئة غايتها العمل في الخليج، والبعض الآخر انهمك في اتجاهات الإسلام السياسي. باختصار لم تكن نكسة 67 مجرد هزيمة عسكرية، بل كانت هزيمة لحلم قومي أكبر منا. ومع ذلك فإن هذا الجيل لم يسلم من هجمات مرتدة مارسها بعض من كبار المثقفين العائدين من المنافي، ليعيدوا إنتاج مشروعهم اليساري وكأن لاشيء في الواقع تغير أثناء غيابهم. هكذا جاء الحكم القاسي بإسقاط جيل كامل من تاريخ الأدب المعاصر. على أيه حال، لقد وضعت التسعينيات نهاية للعرض بإسدال الستار على كل ما مضى، برغبة في إنشاء حظيرة ثقافية تسع الجميع. حظيرة مشيدة على نحو طبقي، بنيتها التحتية الفقيرة تبدأ من نوادي الأدب بالأقاليم المهمشة أصلاً، وقمتها تحتمي ببيت أبيض كبير، نطلق عليه المجلس الأعلى للثقافة. إن هذا البناء الهيراركي للثقافة في تلك المرحلة، سمح بالكاد لكثير من المتميزين ثقافيًا وأدبيًا، أن ينتظروا على سلالم البيت الأبيض طويلاً، أملاً أن يسمح لهم بالصعود. وظني أن كثيرًا منهم مات، وهو ينتظر.   


****

رغم عمره القصير، كان خيري عبد الجواد يطاول الكبار في غزارة إنتاجه وتنوعه وتفرده، وربما لو أطال الله في عمره حتى الآن، لبز بعضهم، ولكان يتربع على عرش السرد باستحقاق بعد رحلة النضج التي قطعها بدأب. غير أن المنايا كانت للفتي رصد؛ فقدناه في مطلع 2008م، وهو نفس العام الذي كنت فيه أمينًا عامًا لمؤتمر أدباء مصر في الأقاليم المنعقد بمدينة مرسى مطروح، ولم يكن لدينا ما نفعله غير أن نكرم اسمه بعد أن رحل عنا. في الواقع، قائمة الراحلين من جيله كانت كبيرة. فثمة سابقين عليه، وثمة لاحقين، وثمة من ينتظر على السلالم. 

   

 لا شك عندي أن التسعينيات شهدت صحوة ثقافية، لكن المؤكد أن طلائعها كانت من كتاب الثمانينات وعلى رأسهم خيري عبد الجواد. ولعل مراجعة متأنية لإنتاج النصف الأول من عقد التسعينيات، تشهد بنضج تجارب أدبية بدأت خطواتها الأولى في الثمانينيات، حيث اتسمت بالتنوع،  والمغامرة، وروح التجريب.      


 أسلمُ بأن شهادتي - كواحد من جيل الثمانينيات - عن خيري عبد الجواد قد تكون مجروحة نظرًا لصلة الصداقة القوية بيننا. ولكن هذه الصلة، جعلتني على يقين بهذا الاستحقاق، فقد قاربت توقده، وكنت شاهدًا على فيض الإلهامات التي تتفجر من مخياله السردي، وعمق اشتغاله الثقافي على مشروعه. الذي واكب شيوع واقعية ماركيز السحرية، فأسرت كثيرًا من كتاب هذه المرحلة، وما زالت تترك آثارًا شاحبة عند البعض من جيل التسعينيات.


 هكذا كان خيري عبد الجواد رمزًا على تجربة ناجحة، ونادرة في مقاربة التراث، واستلهام مخياله الغرائبي. إذ نشأ في أشهر البيئات العشوائية التي تكونت على جوانب القاهرة في نهاية الستينيات، حي (بولاق الدكرور) هو نفسه يعترف بأن هذه النشأة، فضلاً عن تعليمه المتوسط، كانا دافعين قويين لينبهر بالمخيال الشعبي. يكتشف كم هو ثري وجدير باحترام النخب الثقافية. لكنه لم يتوقف عند حد الانبهار، والمحاكاة البسيطة للموروث كتلك التي نجدها في مجموعته الأولى (الديب رماح) بل راح ينهل بنهم من أعماق التراث الشفهي والمكتوب، يطور من أدواته، ويوسع من معارفه. كان أول ما لفت انتباهي في زيارتي الأولى له، هذا الكم الهائل من نفائس الكتب التراثية. في ذلك الوقت، وفي مناخ يلوح بسلفية مخيفة تتفشى في المجتمع، كان التراث موسومًا بالرجعية بين النخب الثقافية. ربما هذا ما دعا إدوار الخراط للتردد، متسائلاً في مقدمة الكتاب الأول لخيري عبد الجواد: هل هذه الكتابة حكايات شعبية أم قصص حداثية؟ وخلص في نهاية الدراسة إلى أنها قصصًا حداثية تمتح من بئر الخرافة الشعبية[1] إنه تساؤل عجيب وغير مبرر ولا يفضي إلى معنى، بقدر مايضمر احتجاجًا.


في فنون الأدب، ومجالات المعرفة المختلفة، نزع العرب إلى الأشكال الحرة أو المفتوحة، التي لا تلتزم بنية معيارية كما كان الحال في الدراما الإغريقية. هذه الرؤية الموسوعية للمعرفة سمحت للقدماء بالتنقل بين الفنون والموضوعات وطرائق التعبير المختلفة كما نجد في كتب الأغاني، والإمتاع والمؤانسة، وغير ذلك من كتب التجوال الحر في فضاء تخيلي  كما في (ألف ليلة وليلة) التي تتضمن -داخل الحكاية الإطار- عدة حكايات صغرى لا ترتبط بمبررات فنية ومنطقية، وتتجاوز حدود الأمكنة والأزمنة. إذ يكفي اختلاق أي مبرر لينهمر المتخيل السردي مستفيدًا بالمعطيات الثقافية كافة، فالشعر والحكمة والتاريخ وفقه الدين، كما في حكاية الجارية تودد التي ألمت بكل علوم الدين والدنيا.


في أوروبا، نجد فن الرومانس الذي يتناول حكايات الفرسان ومغامراتهم، وفن والبكارسك الذي يتناول حكايات الشطار والمحتالين، اعتمادًا على بنية كلية، موزعة على حكايات صغرى. وظلت هذه البنية المرنة ملمحًا مميزًا للسرد حتى في أكثر الأعمال اكتمالاً ونضجًا مثل: ديكامرون بوكاتشيو، ودون كخوتة لسيرفانتس، ورحلة الحاج لجون بينان، التي تدور في عوالم النفوس والأرواح، وحكايات كانتربري لتشوسر وروبنسون كروزو لدانيال ديفو. كما أن الرواية الحديثة عند كبار الكتاب أمثال:ديكنز، ودويستيوفسكي وإميل زولا، الذين نشروا رواياتهم مسلسلات في الصحف اليومية، نزعوا إلى هذه البنيات البسيطة لتمرير الخيال، بغرض اجتذاب القراء، وتشويقهم إلى متابعة ما يكتبون. لكن هذه البنيات على بساطتها تحتاج ساردًا خصب الخيال واسع المعرفة.


ما نعنية، أن الخيال نفسه كان طريقًا للمعرفة. فالأساطير الأولى، كانت طريقة الإنسان الأول لتفسير وفهم واقعه المسكون بالغموض والخوف، ومنها خرجت كل المعارف الأولى والتي مازال بعضها راسخًا في الوجدان البشري، ويتجلى في خطابات مثل: الأحلام، والأديان، والفنون، والآداب. وبطبيعة الحال، فالثقافة العربية لها نصيبها في هذا التراث الإنساني المرتبط بعصور الشفاهة، وظلت آثاره ماثلة فيما بعد التدوين. ونجدها في فنون الأدب العربي بصور وأشكال مختلفة.


 ربما نظرًا لاقتراب فن (المقامة) من أحوال البشر ومظاهر الواقع الإنساني، وتخلصها النسبي من الخوارق والعوالم الغيبية، اعتبرها البعض بدايات عربية لفن القصة القصيرة الذي نكتبه الآن. لكن مع سطوع الحداثة الأوربية، وغلبة التخصص العلمي، حرصت نظريات الأدب على وضع ضوابط إجرائية تحدد ماهيات الفنون. وفي هذا السياق يحذر هـ. ب.تشارلتن من الخلط بين الحكاية في صورتها التراثية والقصة القصيرة في معناها الحداثي، فيقول:”سيبدو لك ما زعمه مؤرخو الأدب أمرًا عجيبًا, لأنك في أغلب الظن ستخلط بين الحكاية والقصة, وسترجع بخيالك إلى أعمق أعماق الماضي السحيق لتري الناس يروون الحكايات كلما كان فراغ، ودار في حلقات السمر حديث, ثم تقول وهذه قصص العرب, وألف ليلة وليلة, وهي كلها أسبق من هذا التاريخ الذي زعمه مؤرخو الآداب بداية للقصة, لكنك أنسيت خصائص القصة بمعناها الصحيح, فليست كل تلك الحكايات الأولي قصصًا, لأنها تفقد أخص خصائص القصص, فما هي صادقة في تصوير الحياة, ولا هي تتعقب أجزاء الحادثة الواحدة تحليلاً حتى تبلغ أقصي مداها, وإنما هي حكايات ولا تنسى قط وأنت تطالعها أنك في عالم من الخيال".[2]


نفهم من كلام (تشارلتن) حرصه على الوحدة الفنية لبناء القصة الحديثة. كما نفهم ضرورة التزام القصة الحديثة بتصوير جوانب الحياة الإنسانية، وخلوصها من موضوعات الخوارق والغيبيات التي كانت موضوعًا للحكايات القديمة. لكن (فرانك أكونورو) يضيف بعدًا آخر، فيقول:"يمكن أن نرى في القصة القصيرة اتجاهًا عقليًا يجتذب جماهير الجماعات المغمورة علي اختلاف الأزمنة وأن الرواية مازالت بالفكرة التقليدية عن المجتمع المتحضر"[3]. يضيف (اكونورو) شرطًا للسرد القصصي والروائي، وهو الالتزام بقضايا الجماعات المغمورة، وهذا التزام أيديولوجي وليس التزامًا فنيًا. وقد وجد في تشيكوف نموذجًا جيدًا للواقعية الاجتماعية ونزعتها النقدية. غير أن كلامه عن الاتجاه العقلي يفضي إلى تجفيف القصة من الخيال. وفي غمار الالتزام بالواقع وقضاياه، بالغت القصة في التخلص من التشكيل الخيالي سواء في موضوعاتها أو لغتها، حتى تحولت في كثير من الأحيان إلى مجرد رسائل تحمل فكرة، أو تحريض على موقف سياسي، وفي سبيل الرسالة نضحي بكل لمحات الخيال والجمال الفني. فيما ظلت الرواية بسبب بنيتها الأكثر اتساعًا فضاءً لمستويات عديدة من السرد، لكنها في عقيدة اكونورو فكرة تقليدية لا تواكب المجتمع المتحضر، مع ملاحظة أن صورة المجتمع المتحضر عنده، هي المجتمعات المغمورة!!


في تقديري أن استدعاء القصة لميدان الصراع الأيديولوجي في القرن العشرين هو الذي أفضى إلى تثبيت نموذجين متناقضين: نموذج تشيكوف الذي يركز على نقد الواقع وفضح تشوهاته، في وحدات قصيرة ومكثفة للحدث بتداعيات وحدتيه المكانية والزمنية. في مقابل (إدجار آلان بو) ونزعته الخيالية السوداء، حتى اشتهر بأنه مؤسس قصص الرعب والتحري، ففتح بابًا لأدب الإثارة والمغامرات الذي نُظر إليه من وجهة النظر الواقعية على أنه أدب تسلية، ولا يصب في تغيير الواقع الاجتماعي. لقد اكتسب المخيال الغرائبي سمعة سيئة تحت وطأة الحداثة. وظني أن هذا موقف أيديولوجي فحسب، فقصص (بو) لا تخلو من نماذج إنسانية متفردة، كما أن النزعة الإنسانية تسكن قصص تشيكوف بوضوح، حتى عندما تلتزم الواقعية النقدية تظل مطرزة بخيال ينبض بالحياة وتفاصيلها. لقد كان السرد طوال الوقت هو خطاب الإنسان إلى ذاته. وبين واقعية تشيكوف وغرائبية (بو) تأتي كتابات (جوجول-1809) ليس بين الواقع والخيال فحسب، بل بين القصة والرواية أيضًا، ففي الوقت الذي تحفل فيه بحياة البسطاء من الفلاحين وتصور معاناتهم تفيد من خيالهم الشعبي وحكاياتهم الغريبة بنبرة متعاطفة لا تخلو من طابع تهكمي على نحو ما عكسته (أمسيات قرب قرية ديكانا). وعلى الرغم من مأساوية حياة (أكاكي) بطل قصة (المعطف) بل ونهايتها، والتزامها بقضايا الواقع المعاش في روسيا، إلا أنها اتشحت بلمسات تخيّلية، بحيث بدت كأمثولة دالة على الواقع وليست محاكاة نقدية له. ولعل هذه الوضعية البينية عند (جوجول) سمحت بظهور أشكال وسيطة بين القصة والرواية، فظهرت كتاباته في شكل النوفيلا، ليس بوصفها رواية قصيرة، بل بوصفها فضاءً لقصص تتجاور وتتداخل وقعائها وشخصياتها بقدر من بالخيال، وطابع أمثولي أكثر اتساعا من الواقعية النقدية. حتى أطلق علي سرديات جوجول (الواقعية الخيالية) وهو مصطلح  تتداخل أصداؤه مع الواقعية السحرية، وكان (بورخيس) من أبرز الذي رفعوا شعار الفن للفن، الذي يمثل نزعة احتجاجية ضد جر الأدب إلى غايات مُسيّسة.


 وظني أن حركات المد الثوري التي شهدها القرن التاسع عشر، وما تبعها من حراك سياسي أفضى إلى حربين عالميين مع بداية القرن العشرين، فضلاً عن حرب باردة ومؤدلجة استمرت حتى التعسينيات، كل هذه ظواهر جعلت المعنى السياسي حاضرًا بقوة في الخطاب السردي، ولا سيما في المجتمعات التي عاشت حراكًا ثوريًا للتحرر من تراث الكولونيالية. إلا أن الثمانينات في مصر شهدت احتجًاجًا صامتًا ضد غلبة المعنى السياسي، ربما يكون متأثرًا بالواقعية السحرية بعد فوز جارسيا ماركيز بجائزة نوبل، مشفوعا بآلية دعائية واسعة. غير أن خيري عبد الجواد كان أسبق كتاب جيله، عندما التفت إلى أهمية توظيف التراث الشفهي والمكتوب لخدمة مشروعه الغرائبي. ليصبح - مع الوقت - تيارًا يعبر عن نفسه في موضوعات مختلفة مثل:    


موضوع المكان: كثير من الروايات التي اتخذت من الأماكن الطرفية/ المهمشة، راهنت على توظيف التراث الشفهي/ الحكائي، والممارسات الممثلة في العادات والتقاليد والأعراف والمعتقدات.

موضوع التاريخ: ولاسيما التاريخ الاجتماعي، حيث يمكن الإفادة من التراث الشفهي والمكتوب لتضفي على الواقع الاجتماعي مسحة تخيلية تستهدف تأكيد الامتداد التراثي، ومن ثمّ  تأكيد الهوية الثقافية، والتاريخية للمجتمعات.

الموضوع الميتافيزيقي: الذي يرصد عالم المتصوفة المتميز في معجمه اللغوي المجازي، ليجسد خيالاً مترعًا بحكايات الأولياء وكراماتهم، وتجلياتهم المكتنزة بالخوارق والمعجزات.

 لكن الفضاء الميتافيزيقي مرن، ويمتد لأبعد من الفضاء الصوفي، إذ نراه في روايات الخيال العلمي، وروايات والألغاز والمغامرات المترعة بعوالم باراسيكولوجية وطوابع غرائبية أصبحت في الآونة الأخيرة هي الأكثر مقروئية بين الأجيال الشابة.  

 جاءت حكايات الديب رماح في نهاية الثمانينيات بمثابة مانيفستو يعلن – بشكل مضمر - عن احتجاج كتّاب هذه المرحلة على مفهوم (الالتزام) وتحديدة لقيمة النص بقوة الرسالة وأثرها في المتلقي. وما أن جاءت التسعينيات، حتى أصبح الخيال عنصرًا رئيسًا ومستهدفًا في السرد.

***

 



[1] - إدوارالخراط: مقدمة  المجموعة القصصية (حكايات الديب رماح) - الهيئة العامة للكتاب - القاهرة - 1987م

[2] - هـ. ب. تشارلس: فنون الأدب -ترجمة (زكي نجيب محمود) - الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة - 2011م

[3] - فرانك أكونورو: الصوت المنفرد - ترحمة (محمود الربيعي) - مقالات في القصة القصيرة - الهيئة المصرية العامة للكتاب -القاهرة -1993م.


Post a Comment

أحدث أقدم