الرؤية عبر عين الكاميرا
قراءة في مجموعة "شوكولاتة نيتشة" لصابر رشدي
حسناء رجب
![]() |
حسناء رجب: قراءة في مجموعة "شوكولاتة نيتشة" لصابر رشدي |
لا يخترع الأدباء القصص، فالقصص موجودة فى مكان ما هناك
منذ زمن طويل جدا، هى هناك والكاتب لا يفعل سوى أن يكشف عنها بعصا سحرية، والحكاية ما إن تموت حتى تولد من جديد، وما تحتاجه فقط هو نوع من الخيال الشعرى ، وفهم جديد لطريقة تنفيذه قصصيا .
" كنت أريد الحكى مثله، أريد الكلام .." هذا ما يقوله المؤلف فى افتتاحية القصص، فالحكايات إذن عبارة عن ترجمة عميقة لما ترهف إليه نفسه ، كنوز مخبأة حنكتها الأيام وأنعش الكاتب روحها المتعبة بالخيال .
عوالم واقعية.
عالم المجموعة على قدر كبير من التنوع ، يضرب بلا شك فى الطبقة الفقيرة والبرجوازية ، ويحتفى أيضا بالمهمشين مع كل مشاعر القلق الذاتى والمعاناة أحيانا ، ويلقى الضوء على كافة تنواعاتهم الغرائبية وسلوكياتهم الشخصية ، وعلى الرغم من أننا لا نستطيع أن نحدد على وجه الدقة ، مدى ما فى حوادث هذه القصص من الواقع ونصيبها من الخيال ، فإنني أرى عنصر الخيال ضئيلا، ومعظم الشخصيات مأخوذ من الواقع .. شخصيات حادة العواطف وشديدة الإنفعالات ، يصغى معظمهم لصوت الحياة على الرغم من معاكسة الظروف وقلة الحيلة ، إلى جانب الدور الذى تلعبه أحداث خرافية ذات صلة بالموروث الثقافى ، بالأشباح والعفاريت والتى يعتقد بوقعها بطل القصة اعتقادا جازما أو شبه جازما .
ثمة منطق تصاعدي يحكم ترتيب القصص ، نبش فى الذاكرة بالتدريج ، يبدأ بطفولة البطل ، وصف فيها الحياة البسيطة للريف والتى يظللها جو أمومى هادئ كما فى قصة ( العلاج بالماعز ).
أما عن اللغة، فجزلة معطاءة ، وتراكيبها قوية ذات أسر وعلى سبيل المثال لا الحصر : الذكرى بأكملها بلا نظير، حبيسةعالمى البعيد .. محراب ينبذ النسيان ، مهيضة الجناح ، كان حسا تنبئيا، ناويا رؤية الرجل ، مداريا شعوره بالتعب .. إلخ.
الطفل شب قليلا يستمتع بشقاوته وغش الطفولة مدعيا البراءة التامة مفعما بالرغبات الشريرة والتى قد لا ينجو منها ، كادت ألاعيبه أن تفتك بصبى آخر وكثرت الأمنيات للتخلص من هذا " الشيطان الصغير " . وانظروا إلى دقة المؤلف فى استخدام اللفظة " الشيطان " يوحى الرمز هنا إلى طرافة ما يورده الطفل من آلاعيب سواء كان هذا الطفل مدركا مخاطرها أم لا ، إنه طفل بلا شك لا يمكن أن يكون غير ذلك .
الإشكاليات دائما التى تواجه أى كاتب هى : من أين يبدأ القصة وأين ينتهى ، إنما وفى هذه المجموعة كان الكاتب يقبض على هذه الإشكاليات ، يزنها بميزان دقيق إن صح التعبير ، فقام بمعالجات بارعة فى البدايات حتى يصل إلى النهايات المحكمة ، فلا أنت تسأل ، " ماذا بعد ؟ ولا تشعر بنهاية مفتعلة .
فى قصة المترنحات وذكور البط ، أحد أهم الموروثات الشعبية التي اندثرت (الزار) تعاود الظهور فى صور أخرى ترتدى ثوب المدنية ، أناس واهمة غارقة فى واقع يشبه الحلم ، القصة بالطبع لها دلالة باطنية عميقة توسع حدود الوعى ، أن ثمة علاقة وثيقة بين الطقوس والأساطير ، علاج روحى عن طريق الرقص الهيستيرى المزيف والإغماءات المصطنعة أحيانا وتقديم الأضاحى أسترضاء للأسياد .
لا زلنا فى القرى المصرية نخاف الجن والعفاريت اعترافهم بوجودهم وخطرهم ، إلى الآن نسمع ( اسم النبى حارسك وضامنك أو صاينك ) . عبارة نحبها جميعا وتخطف القلوب طمأنينة وسلام .
عودة إلى تلك العادات القديمة فى قصة سرادق صغير .. العادة التى تفقد التجربة قداستها واحترامها ، فالنائحات اللاتى تعددن مناقب الفقيد وتذكر مآثره وتندبن فقده وتسقط من الدموع نوافير لتضفن جوا من الحزن والأسى إنما هن كنا نطلق عليهن النائحات المستأجرات " اللى بيعيشوا فى الدور، وبيصدقوا روحهم ) .. هذه الحكاية من الصعب آلا تعثر لها على رابط بقصص أخرى فى حياتنا ، أذكر أننى قرأت عن نياح مدفوع الأجر على الوطن أيضا ، وهى قصة المذيع المشهور التى يمجد فيها رئيسه ويمدحه فلما سقط الرئيس شتمه وقال " الله يخرب بيتك " لذا لا يلومنى أحد أنني أسقطت هذه القصة على كثير من حياتنا اليومية.
السرد من خلال عين الكاميرا:
من يقرأ قصص هذه المجموعة لن يفشل في ملاحظة أنها ( سجل شخصى ) ولهجة المؤلف المثقف على لسان السارد شخصية وذاتية،، حيث ينقل إلينا حب السينما فى سن مبكرة بسرد حكاية عن أناس حقيقيين فى مكان معين فى قصة ( سينما فلوريدا ) وبشائر حبه بل تعلقه بها ، فكان هذا الطفل مستعدا أن يطاح به فى كل مرة يجلس على الدكك أو يتحمل سياط مرشد الكراسى فى الظلمة وتلك الرائحة النتنة التى تفوح من الأركان والزوايا ، لكنه سعيد بتجاهل كل هذه المنغصات .
الكثير من اليقظة الفنية فى خاتمة هذه القصة بلغة شعرية فى الوصف والسرد ، هكذا ظل قانون القصة فى علاقة أخذ ورد حتى انتهت بمؤخرة سيارة رجال الشرطة لتستقبل ما تيسر من المتفرجين .. * ويقدم السرد في هذه القصة زاوية الرؤية التي يرى الكاتب قصته من خلالها، وهي طريقة عين الكاميرا الراصدة للتفاصيل الصغيرة وإن هانت . " ضرر بعض التجارب ، عبء تحمل بعض الألم ، الحاجة إلى الضحك والخوف والبكاء رغبات ترسخت لتنتهى بالنتائج المرجوة منها . * س ب
![]() |
حسناء رجب: قراءة في مجموعة "شوكولاتة نيتشة" لصابر رشدي |
وقد ورد تعلق الراوى بالسينما فى أكثر من قصة فى " هناك شيء يحترق " وأيضا فى قصة وسط البلد ، حينما قال ( أحب السينما والكتب ) . وبالنسبة لهناك شيء يحترق عن (سينما فؤاد) والكاتب كان واعيا بكل ما يكتبه ، استدعى بعض الأسماء للأفلام بتنوعاتها الأمريكية والايطالية والفرنسية .. مثل تشارلز برونسون وآلان ديلون ، وهؤلاء بالمناسبة أبطال شعبيين ، لتأكيد على شغف وثقافة هذا الجيل .. فى نفس الوقت ما يقابلها فى السينما المصرية ، فريد شوقى وشكرى سرحان .. يقول الراوى : محمود حنفى ( مدمن ) أفلام أمريكة ، وتلك المفردة التى اختيرت بعناية ولخصت الحالة والمناخ الذى كان سائدا وقتها لهذا الجيل .
أما قصة النيل عند وكالة البلح ، فقد شعرت على نحو ما أنها مهداة لي، إذ شعرت أثناء القراءة أنني أتجنب شيئا ما حتى أدركت أننى خفت بطريقة أو بأخرى غرق الشابين ، ثم بعد قليل وبعد أن علمت مصير الشابين ، ضبطت نفسى وأنا أهمس وأقول ( الحمد لله ) ، وهنا تكمن براعة المؤلف ، فى تلك الدقائق للتماهى مع هذا العالم من الأرق والحيرة والبحث واللف ومغالبة الزمن والشد والجذب والتشويق لتصل إلى النهاية التى وأحيانا على طريقة هيتشكوك تكسر كل التوقعات .*
حضور التشويق:
من أسرارحيوية السرد عند المؤلف أيضا عنصر التشويق وهو حاضر بقوة فى قصة (النافذة) وقد أثارت فضولى عن إنجلاء سر هذا العامل البسيط ثم تنحل خيوط السر قليلا مع مسحة رقيقة وراقية من الفكاهة ..فالعامل محور القصة إنسان فيه من البشر جميعا من ضعف وعجزعن مقاومة إغراء ما وراء هذه الشرفة المجهولة ولم يستطع مغالبة هذا النداء . طرافة الأحداث سبب من أسباب الحيوية التى نجدها فى سرد المؤلف.
مشهد العامل الزلط والرمل مشهد عادى قد نراه فى حياتنا اليومية إنما حينما وصفه المؤلف أصبح له وجوده الخاص وإضفاء المعاني الإنسانية عليه .
وفي (ريح أمشير) أستطاع أن يصور ببراعة رجلا وامرأة فى أزمتهم العاطفية وكبريائه الجريح ليثور ثورة هائلة ويلقى بزوجته إلى الدرج المظلم وراء القطط .. هنا لا يلجأ إلى الوصف المباشر لأعماق البطل وتصرفاته بل لجأ إلى (الحلم) ليطلعنا على شدة توترته وكان استخدام الكاتب للحلم موفقا للغاية وهو (الإيحاء) بدلا من الوصف الصريح فيجئ أوقع وأشد تمكنا على النفس . ولا يخلو عالم صابر رشدى من ربط الواقع بالأسطورة فجاءت القطط التى نسجت الخرافات حولها وهى بطل أيضا فى هذه القصة
لقطات تشيخوفية:
في قصة "جولات س. ع" نرى شريحة من المجتمع ليست قليلة ، شخصية سيكوباتية للمتحرش التى تميزبوجود ونمطية وتكرار الفعل الخاطىء .. يتحدث المؤلف عن شخصية مرجعها انهيار المجتمع ككل ، إذا ما قارنا هذا طبعا بجيل الستينات والسبيعينات فكان الشاب حريصا على حماية الفتاة حتى لو لم يعرفها ..انتهى الأمر بأن المجتمع كله ( غلب معاه ) حتى عزموا أن يلصقوا صورة له أنه ( مطلوب ) .
بينما نرى بوضوح في قصة (خراط البنات) متلازمة ستوكهولم، حيث يعرض ثم يدمر خيال السرد الذى خلقه بعناية وهو يخبرنا بالحقائق الواقعية وراء قصته .. : فى البداية ينقض ، وبعد ما تسترد عافيتها تطرده ، ربما ينفرط قلبه ، ولكنه لا يهتم فكل شيء متوقع لديه وفقا لتجاربه .
بينما في قصة (مزلقان) تتحرر من قيود المنطق خيالية وغرائبية وتخضع لقوانين الميتافيزيقا . يظل الإلهام نابع من الأساطير ويتسرب إلى مخيلة الكاتب فى سرد مشوق وطريف ( نتذكر جميعا كاب المأمور ) إنها قصة عن كائنات خيالية تحلق عالية تصرخ وتسبب حالات من الفوضى ، تحكى عن الخوارق وتحضير الأرواح عالم من الجن والسحر يتداخل مع عالم من البشر الواقعيين
وفي قصة ( طابور) يقول الراوي على المستشفى: كنا نسميها المجموعة وهي تسمى في بعض القرى والمدن الصغيرة "الجمعية" أو "المجمعة" و"طابور" عنوان يحيل إلى الصبر الطويل فى إنتظار شيء ما مهم ، سلعة ما ، يعنى دأب من الخلق ضربت عليهم الذلة والمسكنة ، جموع خاوية محطمة ، على العكس هناك فى بعض الدول نرى طوابير التلذذ بالإنتظار بالنسبة لطابورنا هذا المشهد تحديدا فيغربله الأسى والفقر والجهل ومن قبل على لسان الراوى القسوة العنيفة فى التعامل مع المرضى
نتأمل فى فقرة فى المنتصف تراكيب الألفاظ الحيويى القادرة على خلق الجو النفسى المطلوب ، لتنتهى بعبارة بالشفا إن شاء الله
كانت هناك ( أم شكل ) المرأة القوية والتى لم تسافر بلاد بره محشوة بالإدراك لا الجهالة ( مش عاوزة أقول العلم ) لانها لفظة مهمة جدا ممكن تطلق على مستر اسماعيل إلا أنها أبت أن تكون معتوهة العقل والإحساس .. ساحبة ابنها المريض إلى آخره , وبرغم أنها امرأة من الفقراء من الدهماء إلا أنها ليست مستر اسماعيل فى قنديل أم هاشم الدكتور المتغطرس فى بداية تعرفه على مجتمعه من جديد ، انما هى ومن أول لحظة ، تتعامل مع المشهد كما يجب أن يكون أمام ذهول الجميع ،لنتذكر جميعا أم شكل * لقطات تشيخوفية
و أما "شيكولاتة نتيشه" فهى درة هذه المجموعة القصصية، وربما أطول قصصها فى عدد الصفحات، ورغم إدعاء الراوى أنه يجهل من هو نتيشه، فإن القصة تلخص حكمة نتيشه ذات نفسه حينما قال : أن من كان يحيا بمحاربة عدوا ما تصبح له مصلحة فى الإبقاء على هذا العدو حيا، أليست كلها اسقاطات على مجتمعاتنا، ومع ذلك نجده يقول: أن من يتصارع مع الوحوش عليه أن يحذر أن يتحول هو الآخر إلى وحش.
![]() |
حسناء رجب: قراءة في مجموعة "شوكولاتة نيتشة" لصابر رشدي |
أما (حالة) فهي أقصر قصة في المجموعة، لكنها كبذرة أنبتت الزرع الوفير، إنها تجسد النظرة الحيادية للمؤلف فى طرح أفكاره حول الحالات المهمشة فى المجتمع ، انثبرولوجىا علم الإنسان وسلوكايته وتكيفه مع البيئات المختلفه وتواصله، .. إن حالة دكتورة نعيمة التى ما زالت تثار فى مجتمعنا والتى ما زلت وأعتقد شخصيا أن معرفتنا بهذا العالم تقترب من الصفر سيكلوجية هؤلاء الأشخاص فهم فقط لا يعانون من تقبل هذا الجسد الجديد الذى يعيشون فيه بل يكافحون نظرة المجتمع لها الجنس المراوغ الذى هو بين بين . ليس فى مجتماعنا فقط أن هؤلاء منبذون فى مجتمعات أخرى غربية ، حتى لا ندعى أننا وحدنا نقف عاجزين أمام استيعاب هؤلاء الفئة من الناس
لماذا ذكرتنى دكتور نعيمة بالموناليزا ، اللى سماها والتر يبتر ناقد فنى أقصد لوحة الموناليزا المخنثة ( مصاصة الدماء ) ولأنها مراوغة ليست بنظراتها فقط إنما بجنسها أيضا ، امرأة عذراء تشبه الدكتورة نعيمة منطوية على ذاتها أى أن العين والنفس ذكورية فى جسد أنثوى.
إن قصص هذه المجموعة لها دلالتها الزمانية والمكانية، يكتب فيها صابر رشدي عن أولئك الذين لا يقرءونه، المهمشين والمظلومين والغرباء والضعفاء والمنبوذين، العالم الذي عايشه في صباه في أحد أحياء القاهرة الشعبية، وهو العالم الذي يتوق للكتابة عنه كل كاتب.
إرسال تعليق