النسر أو الانمساخ الساخر لعالم فقد بوصلته

قراءة لرواية " النسر" القصيرة ليوسف خليل السباعي


في  رواية النسر ليوسف خليل السباعي، تنكشف ملامح سردية هجينة تتقاطع فيها الفلسفة والعبثية والواقعية الساخرة، في محاولة لتفكيك عالم ينهار أمام الذات الساردة، بينما تعجز هذه الذات عن إيجاد نقطة يقين أو مركز ثقل تتكئ عليه. ينجز الكاتب هذه المهمة عبر شخصية عبد الرحيم والشيخ عبد الله، وهما وجهان لقلق وجودي واحد، وإن اختلفت أساليبهما في التعبير عنه. المقطع ليس فقط رحلة عبور "طريق" بالمفهوم الفيزيائي، بل هو أيضا مسار داخلي متشظٍ نحو لاشيء، حيث تتحول السماء والأرض، البحر والمقهى، إلى فضاءات عبثية، ومرايا مشوهة لانعكاس عالم فقد معناه.
البداية عند الطريق: صورة الطريق في النص تتعرض للتشكيك منذ اللحظة الأولى. "لم يكن عين الطريق"، يقول السارد، في جملة تعلن عن انزلاق المعنى وتبدده. ليس هناك يقين في الرؤية، بل هناك شك دائم. تتجسد هنا الثيمة الكافكاوية؛ حيث العالم مألوف من حيث الشكل، لكنه ينهار داخلياً بمجرد محاولة فهمه. الشيخ المجهول الاسم، الذي يطلب من عبد الرحيم النظر إلى السماء لا إلى الأرض، يصبح رمزا لتيه المعنى: السماء هنا ليست مصدرا للسمو أو الطمأنينة، بل فضاء غائم، يتلاشى فيه الكوكب، وتضيع البوصلة.

العلاقة بين الشيخ وعبد الرحيم مشبعة بالتوتر الوجودي واللغوي. فلا أحد يفهم الآخر تماماً، ولا أحد يملك إجابات، ولا حتى أسئلة حقيقية. يتحدث الشيخ عن "طريق السماء" لأنه "لا شيء يعجبه على هذه الأرض"، وهي عبارة تختزل تناقض الإنسان المعاصر، الذي يتخلى عن الواقع دون أن يمتلك بديله. في هذا، يتحول الشيخ إلى شخصية أشبه بـ"ديونيزي" منه إلى حكيم، ينسحب من العالم لا لأنه فهمه، بل لأنه لم يعد يحتمل عبثه.

مشهد البحر يعمق هذا العبث. السرد يقترب من الواقعية السحرية، حيث تختلط الحقائق بالأوهام، وتصبح الروايات التي يقرأها المصطافون انعكاسات مشوشة لعالمهم. رواية "مدام بوفاري" تحضر كرمز للخيانة والحلم الكاذب، بينما "امرأة في الظل" تشير إلى سردية مغيبة، والكل يتحدث عن واقعة تحرش في الشاطئ من وجهة نظر متضاربة، تنسف إمكانية الوصول إلى "حقيقة". هذه الفوضى تعيدنا إلى ثيمة الانهيار الإدراكي والضياع في المتاهة: ليس ثمة حقيقة موضوعية، بل روايات متضاربة، مشوبة بالتحيز، وتُبنى على حدوس مشكوك فيها.
يبلغ العبث مداه في مقطع "كل شيء أزرق". يفيض المشهد باللون الأزرق إلى حد الغثيان: البحر، السماء، المظلات، النظارات، حتى الجريدة. هذا الزخم اللوني ليس مجرد وصف بصري، بل يصبح كناية عن هيمنة واحدة تُفرغ التعدد من معناه. الأزرق الذي قد يرتبط تقليدياً بالهدوء والتحليق، هنا يختنق، ويتحول إلى طغيان بصري رمزي، يعكس غياب التنوع، وربما نوعاً من الاستلاب الحسي والفكري. لا غرابة إذن أن يشعر عبد الرحيم وكأنه في حلم، أو بالأحرى، في كابوس لوني.

أما مقطع "الشيخ عبد الله في مقهى محفوظ"، فهو ذروة العبث والتحول الكاريكاتوري للواقع. النسر، كرمز كلاسيكي للعلو والحكمة، يتحول إلى استعارة للشيخ عبد الله نفسه، في لحظة انمساخ فجائية تعيدنا إلى "كافكا" بوضوح. هذا التحول السردي يعكس فقدان الحدود بين الإنسان والحيوان، بين الرمز والواقع، كما أنه يكشف عن رغبة عبد الرحيم في التحول بدوره، ليس إلى كائن متسامي، بل إلى كلب، تابع، راضٍ بالقليل، منصاع لجمال فتاة شقراء، وهو انكسار رمزي للكرامة والحرية معاً. الانمساخ هنا ليس تحررا، بل انحداراً، وعبودية جديدة مغلفة بالدهشة.
كل شيء في النص مضاد للثبات. الشخصيات تتحول، اللغة تُحرف، الرموز تُقلب، والرؤية مريضة. من المريخ إلى الشاطئ، من محفوظ إلى كافكا، يتجول النص داخل حقول دلالية متضاربة، دون أن يسعى لحسمها أو توجيهها نحو نتيجة نهائية. وكأن الكاتب يقول: لا حقيقة خارج التجربة، ولا طريق خارج التيه. الحكاية تتفكك كما تتفكك الذات، وتصبح الرغبة في التحول إلى "نسر" أو "كلب" تعبيراً عن يأس من البقاء إنساناً في عالم لم يعد يرى الإنسان.

إن رواية النسر ليست رواية بالمعنى التقليدي، بل أقرب إلى نص فلسفي ساخر، يكتب فوضى الواقع عبر صور مركبة، وأصوات متقاطعة، وشخصيات هاربة من ذاتها. هو مرآة للزمن السائل، حيث يتماهى الفرد مع سطوة المحيط، ويتحول السرد إلى صدى للتيه العام. النسر، في نهاية المطاف، ليس سوى وجه آخر للعبث، تماماً كما الكلب... وكما الإنسان.

العبث الممزوج بالسخرية: مرآة لانكسار الذات والهشاشة المجتمعية

في رواية "النسر" ليوسف خليل السباعي، نتتبع خيوط سردية متعددة تتقاطع جميعها في مقهى محفوظ المطل على البحر، حيث يجلس الشيخ عبد الله، المتقاعد الغامض، يقرأ جريدته الزرقاء، وتدور حوله شخصيات تتراوح بين العبث والشفقة، بين التهكم والجنون. هذه الرواية القصيرة تُمارس نوعاً من التفكيك الماكر للواقع، وتلعب على ثنائية الحقيقة والخيال، لتكشف هشاشة الإنسان في عالم غارق في الفوضى والتناقض.

الشيخ عبد الله، رمز الحكمة المتوارية خلف نظارات زرقاء تعجز عن اختراق ضباب الواقع، ينظر إلى مقال عن سرقة داخلية لبنك كأنه يبحث عن تفسير لفوضى لا تنتهي. "حامي البنك هو سارقه"، ليست مجرد خبر صحفي عابر، بل صرخة تلخص عطباً اجتماعياً، تضرب في عمق المؤسسات، وتفضح استبطان الفساد كجزء من النظام لا استثناء له. الجريدة التي يقرأها، بعنوانها الغريب "الزرقاء"، تصبح امتداداً لحالته النفسية، كما لو كانت مرآة ذهنية لعالمه الرمادي.
وعلى هامش هذا العقل المتأمل، يتحرك عبد الرحيم، شخص عبثي، يلهث وراء صورة مستحيلة: الفتاة الشقراء الجميلة وكلبها الضخم. إنها ليست امرأة حقيقية بقدر ما هي إسقاط خيالي لرغبة مشوشة، ولذة مؤجلة، وهروب من واقع خانق. رغبته في "الانمساخ" إلى كلب يكشف عن رغبة دفينة في الانتماء، ولو إلى الهامش الحيواني، طالما أن الواقع الإنساني نبذه. لا عبث أكبر من أن ينهي عبد الرحيم حياته جائعاً، وقد كتبت الجريدة تحت خبر انتحاره: "كلب!". هذه النهاية ليست قدراً فردياً بقدر ما هي صرخة رمزية، تجعل من تحوله المأساوي كاريكاتوراً لخيبة أوسع، تتجاوز الفرد إلى جيل بأكمله.
تأخذ الرواية طابعاً فانتازياً ولكن بسخرية حارقة، إذ تمر الكائنات من أمام المقهى كما في عرض عبثي: دب رمادي، قردة عليا، سنجاب، وفتاة شقراء بكلبها، وكأننا أمام "كافكا مغربي"، يُلبس السخرية ثوب المأساة. كل شيء يبدو قابلاً للانمساخ، كل شيء متحول، حتى مشاعر الحزن، وحتى الدموع الزرقاء التي تسقط من عيني الشيخ عبد الله وتختلط بالحبر، في لحظة شعرية قاتمة تختصر معنى الغياب والفقد.

ثم يأتي عبد القاهر البخيل، شخصية هجائية بامتياز، تُجسّد الجشع المعزول عن الإنسانية. تاريخه غامض، ثروته مجهولة المصدر، وسلوكه أقرب إلى الكائنات الطفيلية منه إلى البشر. ومع ذلك، يخاف من الموت، لا لأنه يخشى النهاية، بل لأنه لا يريد أن يتقاسم أحد ماله من بعده. رعبه من الفناء مادي، أرضي، فج، بينما الشيخ عبد الله يذكره أن الموت لا يميز بين القردة العليا والكلاب والوزراء... إنه الحقيقة الوحيدة التي لا تحتاج إلى تحقيق صحفي.

تطفو هنا مفاهيم عدة: العبث الوجودي، انهيار المعنى، وهم الهوية، الفقد، الجوع، وانعدام اليقين. لكن وراء هذه الرمزية المكثفة، يسير النص على حافة السخرية التي تكاد تُفجر الضحك في وجوه مأساوية. فالجمال هنا مُربك، كما في حالة الفتاة الشقراء التي لا تتكلم، ولكنها تسحب خلفها بشراً تائهين مثل عبد الرحيم؛ والسلطة مجوفة، كما في شخصية الوزير الذي يزور البحر لتشييد مرسى لا أحد يعلم مصيره؛ والمعرفة ملتبسة، كما في حالة الشيخ عبد الله الذي يرى ولا يرى.

رواية "النسر" تضع القارئ في مأزق التأويل: هل هي محاكاة سوريالية لواقع مختل؟ أم هجاء اجتماعي ساخر يمرر رسائل سياسية وأخلاقية عبر حكايات خفيفة الظل ولكن ثقيلة المعنى؟ هي، في النهاية، كتابة ضد التفسير الأحادي، كتابة تحتفي بالسؤال لا بالجواب، وبالتحول لا بالثبات، وبالمرآة المكسورة التي تعكس صورتنا لا كما نريدها، بل كما هي: مضحكة، دامعة، وهاربة نحو موت مجاني لا يعترف بالقيم ولا بالجمال ولا حتى بالكلاب.

التحوّل والافتتان

في رواية النسر، يقدم يوسف خليل السباعي نصاً مركباً ومتداخلاً يتشابك فيه الواقعي بالغرائبي، والجمالي بالمأساوي، والفردي بالأسطوري. وهو نص يكشف عن اشتغال الكاتب على عدة مستويات من التخييل والرمز، عبر شخصيات تبدو بسيطة في ظاهرها، ولكنها تُخفي في أعماقها تمثلات متشظية لهواجس الهوية، والانتماء، والافتتان، والجنون، والانمساخ.
الفتاة الشقراء الجميلة، كوثر – أو "هيلين" كما يسميها الجيران – ليست مجرد امرأة جميلة في حي عادي، بل هي إسقاط رمزي لأيقونة الجمال المدمر، الذي لا يُدرك ولا يُفسر، الجمال الذي يتجاوز الإدراك الحسي والعقلي ويقود إلى الهلاك. اسم "هيلين" يرتبط مباشرة بإغواء الميثولوجيا، بهيلين طروادة، ويصبح كافياً لتحمل كوثر معها لعنة كل من يقترب منها. من هنا، لا تكون كوثر/هيلين مجرد امرأة بل قوة خارقة، خارج الزمن، لا تنتمي لهذا العالم، أشبه بكائن ميتافيزيقي يحيا في عزلة، يرافقه كلب ضخم يُدعى "جوبا"، لا يفارقها، يرمز للحراسة، للحاجز بين جمالها والعالم، بل ربما لغرائزها الحارسة.

إن الصمت الذي تختاره كوثر، وعدم تواصلها مع أحد، يشكل بُعداً شعرياً آخر في شخصيتها؛ فهي تحضر كجمال مطلق لا يبرر ذاته ولا يفسره، تومئ بحركات عيونها أو ربطة الحزام حول رقبة كلبها، تماماً كما تفعل اللوحات الكبرى أو التماثيل الكلاسيكية: صامتة ولكنها ناطقة بألف دلالة.
أما عبد الرحيم، فإنه يقع ضحية هذا الجمال، وينهار تحته، في ما يشبه حالة مرضية نفسية – جمالية، تُستحضر هنا عبر ما يعرف بـ"متلازمة ستندال"، التي تصيب من يتعرض لجرعة زائدة من الجمال. حالة عبد الرحيم لا تنفصل عن الفقر والعزلة والاغتراب، لكنه لا ينتحر لأنه فقير، بل لأنه مسحور، ولأنه – حسب دفاتره – يشعر أنه يجب أن يكون هو مكان الكلب جوبا، ليكون قريباً من هذا الجمال المحرم. إنه، في لحظة ذروة انفعالية وجمالية، يتمنى التحوّل – لا إلى عاشق، بل إلى حيوان، إلى كلب. إنها ذروة الانمساخ في سبيل القرب من الجمال.

النص يعيد هنا توظيف خرافات وأساطير قديمة (التحولات، انتحار العشاق، الجمال الفاتن المدمر) في سياق سردي معاصر يدمج تقنيات الواقعية السحرية. فكوثر لا تشبه فقط هيلين، بل يُلمح إلى أنها قد تكون ساحرة، ويُروى عن دماء سوداء، وصرخات ليلية في بيتها، وكأنها تمارس طقوساً غامضة، بل وكأنها من كائنات العالم الآخر. هذه الغرابة المتأصلة، وغير المفسرة، هي ما يجعلها محركاً رئيسياً للسرد، لكنها في ذات الوقت لا تفعل شيئاً بيدها: لا تسحر أحداً بشكل مباشر، بل جمالها وحده هو الفاعل، كما تفعل الشمس أو الموت، مجرّد وجودها يغير مصائر من حولها.

شخصية الشيخ عبد الله تقدم تحولاً آخر أكثر رمزية، حيث يتحول هو الآخر – لا إلى عاشق منتحر – بل إلى "نسر جوز النخيل". وهو تحول سوريالي وغرائبي في آن، يعيدنا إلى مناخات كافكا وميتامورفوز غريغوري سامسا. النسر هنا ليس فقط طائراً شاهقاً حراً، بل يحمل دلالة المراقب، المفكر، الذي رأى أكثر مما يحتمل. الشيخ عبد الله، الفيلسوف الصغير، القارئ للصحف والكتب، يحاول تفسير ما لا يفسر، فيطرح مفهوم "متلازمة ستندال" ليشرح كيف يمكن للجمال أن يسبب الإغماء والجنون والانتحار. وهو بذلك يشكل المفارقة بين مجتمع سطحي لا يعرف حتى من هو ستندال، وبين سلوكيات غرائبية تفوق حتى فَهمه هو، وتنتهي بانمساخه إلى طائر. إنه الانسحاب الرمزي إلى الأعالي، إلى سماء أخرى يرى منها البشر وقد تحولوا إلى ديك ودجاجة وقرد وشمبانزي ونورس... بل وحتى إلى فئران. والمقهى، الذي يبدو مكاناً للقاء، يتحول إلى ساحة غرائبية مليئة بالمسوخ، والمظاهر، والنفاق، والتفاهة.

عبد القاهر، الزبون البخيل، يجسد صورة الإنسان المادي النفعي، الذي يرى في المال الخلاص والموت كارثة مطلقة، لا يربطه بالحب أو الجمال أي هم، وهو أحد رموز القبح اليومي الذي يجعل من انتحار عبد الرحيم مجرد حدث عابر في قاع جريدة، ومحل سخرية. وفي المقابل، لا يتم إنصاف عبد الرحيم، بل يُنسى، كما يُنسى كل من يحاول الاقتراب من الجمال دون أن يفهمه.
أما الاعترافات الأخيرة لعبد الرحيم، فإنها تمثل ذروة التوتر بين الجنون والعقل، بين الحلم والكابوس. فالرجل، العاشق المهووس، يتأرجح بين الرغبة في القتل والرغبة في التحول، بين العشق والذوبان، بين الحياة والموت. كلماته مكتوبة كأنها صدى لهلوسات داخلية غارقة في الصور والانفعالات، لا يستطيع التعبير عنها بلغة منطقية، لأن ما يحياه يتجاوز اللغة ذاتها.

في هذا النص تتجلى مأساة الإنسان المعاصر في أقصى صورها الرمزية: العجز عن فهم الجمال، الانبهار به حتى الانتحار، والانمساخ هرباً من مواجهة واقع تافه أو غير مفهوم. يطرح النص سؤالاً فلسفياً عميقاً: ماذا نفعل حين يكون الجمال أكبر من قدرتنا على احتماله؟ هل نقترب منه فنحترق؟ أم نغلق أعيننا ونسير في الظلام؟ أم نتحول نحن أيضاً إلى نسور أو كلاب أو دجاج، ونبقى نراقب ونثرثر في مقهى محفوظ إلى أن يأتي الدور علينا؟

في النسر، يقدم السباعي سيرة مقلقة عن الافتتان، عن صمت الجمال الذي يقتل، عن هشاشة النفوس أمام صور مثالية، وعن مجتمع عاجز عن الإنصات، لا يقرأ سوى صفحات الحوادث، وينسى بسرعة كل من يحترق داخلياً.

التحول والاختفاء: الشيخ عبد الله كنبوءة مجازية ونهاية عبد القاهر كعدالة شعرية

تشكّل نهاية رواية النسر ليوسف خليل السباعي ذروة سردية مكثّفة تتداخل فيها الأسطورة بالحياة اليومية، وتنفلت فيها الواقعية من عقالها لتلامس عوالم الرمزية والسخرية والميتافيزيقا. في هذا القسم الأخير، يُنهي الكاتب حكاية الشيخ عبد الله – هذا الكائن الغامض الذي يراوح بين الإنسان والطائر الجارح – بشكل يفتح الرواية على أفق تأويلي واسع، تاركاً الباب مشرعاً أمام القارئ لقراءة متعددة الطبقات. وهكذا تنتهي الرواية كما بدأت: بالغموض، لكن مع اتضاح الجوهر.

الشيخ عبد الله لا يودع مقهى محفوظ فقط؛ بل يودع العالم البشري برمته. فالخروج من المقهى، بوصفها بؤرة تجمع العابرين، يمثل خروجا من زمن النميمة والتكرار والسطحية إلى فضاء علوي أكثر نقاءً ورحابة. هو لا يغادر كشيخ، بل كمخلوق أسطوري، نسر جوز النخيل، يعود إلى أصله بعد أن جرّب أن يكون إنساناً. يبدو الشيخ عبد الله رمزًا للحرية المطلقة التي لم تعد تحتمل قيد المدينة أو البنايات أو البشر، في الوقت ذاته الذي تم فيه اختزاله إلى مشهد سريالي: رجل يرتفع بجناحين في السماء وسط ذهول الجميع، ولا يراه سوى عبد القاهر البخيل، العدو اللدود له، والذي يتحول بدوره إلى أحد ضحايا التحول والانكشاف.

هنا يتماهى الشيخ عبد الله مع الصورة الكبرى للانعتاق: هو الذي "فقص البيضة قبل أخيه وقتله ليظل بمفرده"، يعود في نهاية العمر ليطير بعيداً، كأنه ينجز أخيراً نبوءته الأولى: البقاء منفرداً، ولكن لا في المخبز هذه المرة، بل في الأفق. وهذه الانطلاقة الأخيرة ليست فعلاً جسديًا فقط، بل فعلًا روحيًا ومجازيًا مكتملاً، يذوب فيه الإنسان في الحيوان، وينقلب فيه الواقع إلى أسطورة، ويُفتح مجال التأويل على ما لا يُحد.

في مقابل هذا الانعتاق الأسطوري للشيخ عبد الله، تأتي نهاية عبد القاهر البخيل بوصفها "عدالة شعرية"، حيث يقتل بطريقة عبثية – بطاطس مسلوقة بالكمون – ويتحول موته من حدث تراجيدي إلى مادة للسخرية والفرح الشعبي. هنا تتحول الرواية إلى خطاب اجتماعي لاذع، يفضح القيم الفاسدة والانحراف الأخلاقي لأولئك الذين يعيشون للمادة وحدها. البخل، هذا المرض النفسي-الأخلاقي، لا يقتل عبد القاهر فقط، بل يجعله يعيش حياة جوفاء تافهة، خالية من الحب والتضامن، ويموت دون أن يترك شيئًا سوى رائحة كريهة وألغاز فارغة.

يمضي السرد ليكشف زيف الشخصيات المحيطة، من الزبائن في المقهى إلى المالك والنادل، الكل يثرثر، يضحك، يثرثر أكثر، دون أن يُحدث أي تغيير. هذه الدينامية الحلقية – الكلام الذي "يسافر كالريح ثم يعود" – تخلق بيئة خانقة من اللامعنى، تشكل خلفية معارضة لصعود الشيخ عبد الله في السماء. هنا، تكون المفارقة قوية: من اختار الصمت والانعزال والتأمل (الشيخ عبد الله) يصعد، ومن اختار الضجيج والجشع والأنانية (عبد القاهر) يسقط ويفنى.

في موازاة هذا المسار الثنائي، تظهر كوثر/هيلين كشخصية حدّية أخرى، نصفها واقعي ونصفها أسطوري، فتاة أو أميرة إغريقية أو شبح يسكن دارة لم تُوجد أصلاً. يشير غيابها واختفاؤها إلى اختفاء الجمال النقي أو الحلم المفرط في الرقة. إن هيلين ليست فقط استعارة لجمال مفرط، بل هي أيضا اختزال لمطلب مستحيل، يتعقبه عبد الرحيم إلى أن يتحول هو الآخر إلى "رجل تائه"، ضائع بين العاطفة والواقع، بين الحلم والخراب.
ما تطرحه الرواية في النهاية هو اختفاء جماعي: اختفاء النسر (الشيخ عبد الله)، اختفاء الجمال (كوثر/هيلين)، واختفاء الأخلاق (عبد القاهر)، ووراء هذا كله اختفاء الحقيقة نفسها. النسر يختفي في السماء ولا يعود، الدارة تتبخر وكأنها لم تكن، ورائحة الموت هي كل ما يتبقى من حياة عبد القاهر. تتحول الرواية إلى سردية عن الفقد، لكن ليس فقداً شخصيًا بل وجوديًا، حيث العالم، كما تصوره الرواية، يتداعى تحت وطأة الجشع والثرثرة والفقدان الرمزي للهوية والمعنى.

في هذا السياق، تكون الجملة الأخيرة المربكة: "تتذكر عبد القاهر البخيل الذي نُسي الآن في حرارة غشت كأنه لم يكن" مفتاحًا قرائيًا لموقف الكاتب من شخصيته ومن عالمه. فالموت ليس فقط موتًا بيولوجيًا، بل نسيانًا تامًا، اختفاءً حتى من الذاكرة. في المقابل، يصعد الشيخ عبد الله في الذاكرة الجماعية ككائن متجاوز للطبيعة – نسرًا يطير فوق الزمان والمكان.

رواية النسر لا تُقرأ كمسرود واقعي، بل كمرآة سحرية ساخرة تعكس قبح الواقع من خلال السخرية السوداء، وتُلمّح إلى قيمة الخروج من هذا القبح، حتى لو كان الخروج تحوّلاً إلى طائر جارح، أو إلى لا شيء. في عالم مقهى محفوظ، حيث الكلام يتكرر، والناس تثرثر، والمال يُعبد، يبدو أن الانتحار، الاختفاء، أو التحليق في السماء، هي الأفعال الوحيدة التي تبقى حرة.

إنها رواية عن النهاية، لكنها نهاية لا تُغلق المعنى، بل تفتحه: على الأسطورة، على السياسة، على العبث، على الخرافة، وعلى ذلك السؤال العميق: من يبقى؟ ومن يُنسى؟

Post a Comment

أحدث أقدم