أبعاد رواية "الاحتلال" و"الفخ الأسلوبي" لآني_إرنو
بقلم: عمرو البطا
على الرغم مما يبدو على أسلوب آني إرنو من بساطة وسهولة كأنها تكتب خواطر يومية يستطيع كل شخص كتابتها، فإن روايتها -على عكس ما يبدو- محكمة البناء بشكل دقيق ومكتوبة بوعي شديد بكل ما تطرحه، فالرواية التي لا تعني إلا بالأحاسيس الذاتية اليومية تناقش أفكارا كبرى حول النفس البشرية والبُنى الاجتماعية بكثافة ودون استرسال أو حشو. لذلك أعتبر أسلوب آني إرنو "فخا أسلوبيا" لكل الكتاب والكاتبات الذين يتأثرون بها دون أن يمتلكوا ثقافتها الواسعة ووعيها الشديد، فقد تغريهم هذه السهولة إلى الإقدام على اتباع طريقة الخواطر اليومية بأسلوب مفكك، تافه، ومليء بالحشو.
الرواية التي تتمحور حول فكرة الغيرة تقوم على فكرة عقدة إلكترا الفرويدية، ويظهر ذلك منذ الصفحة الأولى في المشهد الأول الذي يطالعنا بتمسك الراوية بالعضو الذكري لحبيبها على أنه غاية حياتها كلها، كوسيلة تحقيق ذاتها التي سلبتها منها المرأة الأخرى، وتتجلى هذه المركزية للقضيب على مدار الرواية تماشيا مع النظرة الفرويدية التي ترى أن الأنثى تحمل عقدة نقص أصيلة لعدم امتلاكها للقضيب وأن رغبتها الأساسية تعويض هذا النقص من خلال الزواج. هذه النظرة الفرويدية الذكورية انعكاس لنظرة المجتمع الذي يدجن الإناث على أن تحقيق ذواتهن لا يكون إلا من خلال الزواج، وهذه الفكرة ما ثارت عليه الراوية قبل بدء أحداث الرواية بطلاقها من زواج استمر ثمانية عشر عاما، ثم انفصالها عن حبيبها بعد علاقة دامت ست سنوات حتى لا تكرر تجربة الزواج مرة أخرى، لكن الرغبة القديمة المكبوتة تعود لتطفر على السطح مرة أخرى.
تجسد الرواية إذن صراعا بين النظرة التقليدية التي يمليها المجتمع متمثلة في مؤسسة الزواج، والحياة الحرة التي اختارتها الراوية. وهذا التخلي عن الحياة التقليدية ومواجهة المجتمع لا يكون بهذه السهولة، فعليها أن تتحمل العذاب، والكبت، والانتكاس. وهذا ما تناقشه الكاتبة من خلال فكرة الغيرة، الغيرة بوصفها انتكاسا وشعورا بالذنب و"أعراض انسحاب" من الحياة القديمة، وتتناولها تحديدا في صورة "الغيرة النسائية" التي تشكل لغزا كبيرا وتختلف بشدة عن غيرة الرجال، ولا أظن أنني قرأت عملا تناول هذه الفكرة بشكل عميق كما تناوله هذا العمل.
يمثل إحساس الغيرة في الرواية رغبتها في كراهية حياتها السابقة التي ثارت عليها متمثلة في المرأة الأخرى التي تعرف إليها حبيبها السابق. هي لا تكره المرأة الأخرى، ففي الواقع هي لا تعرف اسمها ولا شكلها، وإنما هذه الكراهية في الحقيقة موجهة إلى نفسها، لقد أسقطت نفسها على صورة المرأة الأخرى التي كانت مثلها يوما ما ورفضت أن تستمر في هذه الحياة. ترغب في كراهيتها بشدة لإقناع نفسها بصحة اختيارها، وفي نفس الوقت تفرغ فيها ندمها على ما فقدته في حياتها السابقة، ورغبتها في تعذيب نفسها ندما على التفريط فيها، والتلذذ بالعنف والهدم، هدم نفسها وهدم الآخرين، بعد أن فشلت في الحصول على اللذة من البناء، وهذا جانب آخر في النفس البشرية.
هناك شخصية مختفية تماما في الرواية، لكنها حاضرة بشكل غير مرئي، وهي أم الراوية. المرأة الأخرى لا تمثل فقط الحياة السابقة للراوية، وإنما أم الراوية، الممثلة للتقاليد الاجتماعية والتي سارت في حياتها على دربها قبل أن تثور عليها، وهنا يكمن أساس عقدة إلكترا.
وربما يمكننا فهم دلالة الرغبة الملحة للراوية في معرفة اسم المرأة الأخرى وتحديد سماتها الشخصية على أنها من أفعال الكبت والتشويه، أي لتؤكد لنفسها أن هذه الكراهية منصبة على شخص آخر، وليس على نفسها ولا على الأم.
تركز الرواية على تناقضات مشاعر المرأة في علاقة الحب: في بداية الرواية تتجلى علاقتها بالرجل على أنها تملك، ثم عندما يقول "ألم أخبرك بهذا من قبل؟" تتحول إلى مشاركة. بدأت تفكر فيه لا كشيء تتملكه وخطفته المرأة الأخرى، وإنما كذات، وهي تريد من هذه الذات حبا مقابلا، انعكاسا لتفردها عن باقي البشر حتى استحقت أن يختصها بحبه، وهنا تظهر رغبتها في استخدام هذا الحب كوسيلة تفوق على المرأة الأخرى.
يظهر أيضا الجنس كطريقة لفرض السلطة على الآخر، وهنا تكمن خصوصية دلالة الجنس النفسية والاجتماعية عند المرأة، فهو ليس مجرد نشاط يجلب المتعة كما يمارسه الرجل، وإنما يحمل لديها دلالات اجتماعية ويشكل أسلوبا لتحقيق الذات نفسيا واجتماعيا، لذلك فمفهوم الجنس عند المرأة أكثر تعقيدا، ولا شك أن النظرة الذكورية للمجتمع ساعدت على هذا التعقيد، لكن الراوية لا يمكنها أن تتخلص من النظرة القديمة بجرة قلم.
تنتهي الرواية بالحل الذي توصلت إليه؛ أن تبتعد عن حبيبها السابق وتغلق هذه الصفحة، أي الكبت. وتظهر الكتابة كأسلوب للتعافي. استعاضت الراوية عن طريق فعل الكتابة عن غيرتها الواقعية بالغيرة الرمزية، غيرة من الواقع الذي سلب الإنسان من نفسه، وتمكنت بذلك من التسامي بمأساتها. وفي الحقيقة هذه طريقتنا الوحيدة في الحياة الإنسانية، في بناء الحضارة، في التطور الشخصي والاجتماعي. لا سبيل سوى الكبت ومواجهة الواقع، ولا علاج سوى التسامي بالفعل الإبداعي.
تبدو الرواية إذن كبحث عن تحقق الذات في ظل الشك في صحة القرار الذي اتخذته الراوية. وهنا يظهر الجانب الآخر لعلاقة الحب، أي الأنانية. كل حب هو تحقيق للذات في الأساس، لرؤيتها من خلال انعكاسها على بؤبؤ عين الآخر. وربما يمكننا على ضوء ذلك فهم الفارق العمري الكبير بينها وبين حبيبها الذي ارتبطت به بعد طلاقها على أنه رغبة يائسة في استعادة الحياة الضائعة التي لم تعشها في ظل الزواج لإعادة تحقيق ذاتها من جديد. تظهر الذات إذن في الرواية متضخمة حتى شغلتها عن كل الأحداث العامة الكبرى كما صرحت بذلك في بداية الرواية. وهنا يحق لنا أن نتساءل: ما معنى "الاحتلال" الذي عنونت به الرواية؟ أهو حقا احتلال المرأة الأخرى لها كما صرحت بذلك، أم احتلال ذاتها هي للآخرين والعالم؟
إرسال تعليق