الفقد مرآة للذات.. تأملات وجودية في رواية " قلب حافً "
 لــ فكرية شحرة


بقلم : ثابت المرامي 

الفقد ليس مجرد حدث عابر في سيرة الإنسان , هو شرخ عميق في جدار الكينونة , يكشف عن هشاشتها , كما يكشف عن قدرتها على إعادة صياغة ذاتها , ففي لحظة الفقد يصبح الوجود مرآة صافية تعكس صورتنا كما لم نعرفها من قبل , عارية من الزينة , ومتجردة من الأوهام 
من هنا تظهر أسئلة جوهرية : هل نفقد الآخر حقاً , أم نفقد ذواتنا ؟ وهل الفقد موت للمعنى , أم ولادة لمعنى جديد ؟
رواية ( قلب حافً ) لـ " فكرية شحرة " تضع القارئ أمام امتحان وجودي , حيث يتحول الألم إلى لغة , والغياب إلى حضور , والفقد إلى أفق تتكشف فيه الذات على حقيقتها , إن قراءة هذا النص ليست مجرد متابعة لحكاية شخصية , بقدر ما هي دخول في معترك وجودي , يختبر حدود الوجود عبر قلب يتعرى من كل غطاء . 
أن يكون القلب حافياَ يعني أن يساق عارياً من كل حماية , كأن يلقى في أتون الحياة بلا غطاء يحميه من قسوة التجارب و برود الخيبات و وجع الواقع 
هكذا كان عنوان رواية ( قلب حافً ) لـ " فكرية شحرة " وان كان العنوان هو الولوج إلى عوالم النص السردي , فإن قلب حاف ينهض كمجاز مفتوح على احتمالات كثيرة , و الحفى في الثقافة الإنسانية مرتبط بالضعف , بالانكشاف , لكنه في الوقت ذاته يرتبط بالصدق الأصلي للحياة , فالقدم الحافية تلامس الأرض مباشرة دون عازل , والقلب الحافي يلامس الحياة دون أقنعة , هذا الانكشاف هو ما يضع عفاف ( شخصية الرواية ) في مواجهة مع حقيقتها و حقيقة الآخرين , فهي لم تدخل تجربة الحب مدججة بالخبرة أو محصنة بالحذر , بل اندفعت بقلبها العاري لتتعلم أن العري العاطفي قد يكون مصدر للنقاء لكنه في مجتمع غير رحيم , يتحول إلى ثغرة ينفذ منها الألم ووجع لا ينتهي .
لم تتوقف الرمزية في رواية قلب حافً عند العنوان , بل شملت الصور الجزئية التي تنسج الكاتبة نصها , فالحذاء الغائب ليس مجرد تفصيل عابر , بل هو استعارة عن الغطاء المفقود , عن الحماية التي لم تملكها البطلة , وكأن عفاف تجسيد المرأة التي تسير في دروب الحياة بلا أدوات دفاع , في حين أن الرجل مزود بثقافة تسنده وبسلطة تحميه , هذا الاختلال الرمزي بين " الحافي " و " المحصن " يفتح الباب لقراءة أعمق , فالحب بين عفاف وحازم ليس حباً متكافئاً منذ البداية , لأن قلباً حافياً لا يمكن أن يتوازن مع قلب يرتدي أحذية الكبرياء والأنانية .
الرواية تقدم تجربة شبه كاشفة للمجتمع الذي تعيش فيه بطلة الرواية لتصبح نصاً يستحق التأويل والمشاهدة لهذا الواقع بعيداً عن كيفية السرد وأدواته , وينفتح على تأملات عميقة في طبيعة الإنسان , الحب , المجتمع , عفاف ليست مجرد شخصية محورية في حكاية خيانة أو حب ضائع , هي مرآة لصراع الإنسان مع ذاته ومع الواقع المحيط به , هي استعارة للحالة الإنسانية بامتياز , النص يفتتح رحلته من قلب حاف وحديث مع المرآة , رمز الهشاشة والانكشاف الذي تتعرض له كل امرأة في مجتمع يفرض قيوداً ثقافية صارمة , وفي الوقت نفسه يضعها أمام تجارب عاطفية صادمة لا تسمح لها بإعادة بناء الذات 
القلب الحافي في الرواية لم يكن رمزية للهشاشة العاطفية من خلال الأحداث التي تحول إلى أداة معرفية , فالحافة التي يكشفها الألم والفقد والخذلان تمنح البطلة فرصة لمراجعة علاقتها بالأخر , ومعرفة نفسها , وإعادة ترتيب أولوياتها , عفاف من اللحظة الأولى تظهر ككائن منحاز لذاته , متأرجح بين العاطفة المندفعة وبين الوعي الذي يبدأ بالتشكل تدريجياً من الأسرة وظروفها , من حنان خطاب , إلى عناد جمال وعنفوانه , من فقد الأب الذي لم تعهده حاضر , ومن غيابه الذي انتهى بغياب أبدي ( الموت ) , إلى زواج أختيها التقليدي , مع كل جرح , مع كل خيبة , هذه الصيرورة التي مرت بها عكست فلسفة أساسية في النص , أن التجربة الإنسانية مهما كانت مؤلمة هي الطريق الوحيد للمعرفة و النمو 
في علاقتها بحازم يظهر التعارض بين العاطفة والسلطة , بين الحرية والمسؤولية النفسية والمجتمعية , حازم ليس مجرد رجل يخون البطلة , هو شخصية تجسد منظومة اجتماعية كاملة , منظومة تمنح الرجل الحق في التجربة والاستهلاك , بينما تفرض على المرأة قيود الالتزام و الصبر والسكوت , تجلى ذلك بعد فشل قصة الحب الذي أتعبها وتجاوزت قيوداً مجتمعية وأسرية للقاء حبيبها الذي لم يكلفه هذا الأمر شيئاً غير الاعتذار عن الحب والارتباط , وأن له أسرة وأبناء في مدينة ( إب ) وعليه مسئوليات تجاههم ومن الضروري مراعاة الأسرة في حياته , لم يعبأ لمشاعر عفاف وإلا لما فتح مجال للحوارات التي جعلت هذا الحب داخل عفاف ينمو ويكبر , تأكد هذا النمط الفكري في نهاية الرواية عندما إلتقته عفاف في نهاية السرد , وأن حياته تدمرت بسبب علاقة مع أنثى جعلته يغير مدينته و بيته وأسرته وضاع , يعني أن من دمرته كانت في محل قوة أو سلطة , أو كان في موضع أضعف شعورياً , وهذا الشيء لم يحدث بينه وبين عفاف , الرواية هنا تكشف بعداً نقدياً واجتماعياً , وأنها ليست مجرد نص عن علاقة عاطفية فاشلة بل عن هيمنة النظام الاجتماعي على الحب والحرية الفردية 
عفاف إذ تتعرض للخذلان ليس فقط لشخص , بل لمفهوم الحياة والنمط الاجتماعي الذي صاغه المجتمع حولها , ما يجعل تجربتها شخصية وجماعية في الوقت نفسه .
تميز السرد بالمونولوج الداخلي في شخصية البطلة حول الحياة والفقد والغياب منذ البداية , المرآة , الأب , ألأخوة , الأخوات , عن ساكني الدار الذي بنته وعن أحوال المعاقين فيه وحكاياتهم , عن الأقرباء , الذي منح القارئ فرصة الولوج إلى أعماق وعي البطلة , عفاف لا تتحدث مع الآخرين بكثرة , بل تتحدث مع نفسها , تعيد صياغة خيباتها , تحاكم اختياراتها , وتحاول فهم حدود اختياراتها داخل وضع محدد , هذا السرد الداخلي يعكس فلسفة الرواية , المعرفة الحقيقية تأتي من التأمل في الداخل , من مواجهة الذات , وليس من الانغماس في الخارج أو انتظار الاعتراف بالحقوق من الآخرين , كل مونولوج يكتب للحظة معينة , لكنه في المجمل خيطاً يربط الأحداث بالتطور النفسي , ويخلق تجربة قرائية أكثر ألفة وتتابع 
السرد في الرواية يتسم بالتصعيد الشعوري والإيقاع الداخلي , فكان أداة لإظهار تموجات القلب , طبيعة الألم , صيرورة الوعي , النص يشبه دفتر يوميات , خواطر محب , لكنه ذو طابع يحاول أن يترجم المشاعر إلى مفاهيم شعورية تبين الاختلاف العاطفي بين الجنسين , والخذلان إلى معرفة , والخسارة إلى تحول نحو الإنسانية التي فقدت الكثير بطرق شتى للأفراد , وكان ذلك التحول في التغيير الذي حدث لشخصية عفاف عندما نأت عن كل صروف الحياة ومتعها الذي يهتم بها المجتمع , إلى الدار التي بنتها والتي تضم احتياجات المعاقين نفسياً وحركياً , البنية العاطفية في الرواية تنتقل بين الماضي والحاضر , بين الأحداث المعيشية والذكريات , لتصوير كيفية تراكم التجربة في الوعي , الزمن ليس خطاً تقليديا , بل حركة حلزونية , كل تجربة تتكرر بصياغة مختلفة , كل جرح يعاد تفسيره , أي أن الإنسان لا يعيش الحياة في تسلسل منطقي , بل في سلسلة من اللحظات الواعية , والمراجعات الذاتية , والتحولات المستمرة .
علاوة على ذلك تظهر الشخصيات الثانوية كمرآة لتوسع الرؤية الإنسانية للرواية , فالأصدقاء , أفراد الأسرة , الشخصيات العابرة , موظفي الدار , المعاقين في الدار , كل منهم يمثل زاوية مختلفة للنظر في المجتمع , في الحب , وفي مكانة المرأة , هذه الشخصيات رغم قلة حضورها الظاهر تضيف أبعاد للنص , تجعل القارئ يلمس شبكة العلاقات الاجتماعية التي تحيط عفاف , وتكشف عن الأطر الثقافية والسياسية التي تحدد سلوكها , كل شخصية ثانوية تساهم في إبراز التناقض بين الواقع والطموح , بين الحرية المفترضة والقيود المفروضة , بين الحب الذي يعطى بلا شروط , والحب الذي يستغل لتحقيق أغراض خارجية 
الجسد في الرواية على الرغم من حضوره الخافت , يحمل دلالات فلسفية مهمة , غياب الوصف المادي التفصيلي يضع التركيز على الروح والوعي , ما يجعل الجسد رمزاً للذات في مواجهتها للعالم , تجارب عفاف الجسدية أو غيابها تبرز الخيانة أو الخذلان , لكنها تركز على أثرها النفسي والفلسفي , الجسد هنا ليس مجرد وعاء عاطفي , إنه مجال لتجربة الحرية والانكسار والتحرر الداخلي , إن رؤية الجسد بهذا الشكل تعكس مقصدية الرواية بأن الجوهر الحقيقي للتجربة الإنسانية لا يكمن في الخارج , بل في الداخل , في قدرة الإنسان على الشعور , التفكير , والنمو من خلال الألم .
رغم أن الرواية تركز على تجربة عفاف الشخصية إلا أن السياق الاجتماعي والسياسي يشكل عنصراً محورياً لفهم النص , فاليمن كما يقدما النص ليس مجرد خلفيه جغرافية , هو شبكة من الأعراف والتقاليد والقيم التي تشكل قيوداً على حياة المرأة , تحدد أدوارها وتفرض عليها التكيف مع منظومة سلطوية مرئية وغير مرئية , هذه الخلفية تجعل خيبات المرأة في هذا المجتمع المتكون في شخص عفاف الفردية تبدو نتيجة طبيعية لتفاعلها مع واقع جماعي أوسع , الخذلان والانكسار التي تعيشها لا يمكن فصلها عن النظام الاجتماعي الذي يعيد إنتاج مثل هذه العلاقات غير المتكافئة بين الجنسين , حيث يعطى الرجل مساحة واسعة للممارسة والانفلات والتجربة , بينما تسلب المرأة حقها في الاختيار أو التعبير عن رغباتها
الشخصيات الثانوية في الرواية تضيف بعداً للنقد الاجتماعي , الصديقات , الأقارب , الحكايات العابرة التي ذكرت , يمثلن تيارات مختلفة من التأقلم والمقاومة حسب النفسية والظروف المحيطة لكل شخصية ضمن المجتمع الواحد الذي تعيش فيه عفاف , فبعضهن يخترن الصمت والانقياد للحياة كما هي , بينما تحاول أخريات البحث عن مسارات تحررية , هذه التباينات تمنح القارئ رؤية شاملة عن المرأة اليمنية في النص : ليست كلها ضحايا أو متواطئات ضد أو مع ما يحصل داخل المجتمع , وإنما كل واحدة لها تفكيرها واهتماماتها ومسارها الخاص , تصارع المجتمع بطريقتها وحسب الأدوات التي تملكها , من خلال هذا التباين توضح الكاتبة أن الحرية ليست حالة مطلقة , بل عملية مستمرة تتشكل في التفاعل بين الفرد والبيئة المحيطة .
فلسفة الهوية في الرواية تمتد لتشمل الوعي الذاتي والقدرة على المقاومة الداخلية , عفاف رغم ظروف المجتمع وقسوته , رغم انكسار الحب تبدأ تدريجياً في أعادة تعريف نفسها , من خلال المجتمع والحقوق التي تستطيع أن تحصل عليها منه , ووفقاً لإدراكها لحقها الداخلي والحق المحيط عليها في الحياة والاحترام , ووفقا لعلمها بأن القوة تصنع شخصية مختلفة عند الناس وأحكامهم , تجلى ذلك الأمر بذكر شخصية نسائية داخل الرواية في بداية حياتها , كيف تم إطلاق الأحكام السيئة عليها حتى وصل الأمر شرف القبيلة والأسرة , وبعد وصول هذه الشخصية مراتب عليا اجتماعياً وسياسياً , كانت القبيلة ذاتها أول من ذكر الفخر بها , وأنها تنسب لقبيلة عظيمة , من أسرة رفيعة ذات قدر وشأن , فطالبت عفاف بحقوق ورثها , تمكنت , وأصبح دخلها من مشروعها وأفكارها , بعدها خلعت الحجاب , ولم تعد تكترث لحكايات النساء ومغامراتهن مع أزواجهن كنوع من الحقد , ومن التساؤل حول كيف تستطيع أن تعيش دون رجل ورغبة .
هنا النص يوحي بأن الهوية ليست ثابتة , بل متغيرة ومشروطة بالتجربة والفهم الداخلي والبيئة المحيطة , القلب الحافي هنا يمثل أيضاً مرونة الإنسان وقدرته على التكيف وإعادة البناء .
البعد الرمزي للحرية والانكسار يظهر بوضوح في العلاقة بين الصوت والصمت في الرواية , صوت عفاف الداخلي يغمر النص ببوح صادق , بينما يظهر صمت حازم وغيابه العميق داخل النص و في تعامله مع الآخرين ( عفاف ومثيلاتها ) , هذا التباين يعكس فلسفة النص بأن القوة الحقيقية غالباً ما تكمن في الداخل , وأن الانكسار لا يأتي من الألم الخارجي , بقدر ما يأتي من فقدان القدرة على الإصغاء للذات , الصمت هنا ليس خمولاً , وإنما مساحة للتأمل , وهو يشكل عتبة للوعي , حيث تتضح الحدود بين الذات والآخر( حازم ومن يماثله ) , بين الحق في العطاء والحق في حماية النفس .
كما أن الرواية تبرز الثنائيات الأساسية التي تحكم التجربة الإنسانية , الحب والخيانة , الحرية والقيود , الانكسار والنهوض , كل ثنائية تستكشف من خلال أحداث صغيره ومشاهد يومية , لكنها تنقل رسائل عميقة والحب في النص ليس مجرد شعور رومانسي , بقدر ما هو تجربة وجودية في مجتمع لا يعلم عن الحب سوى الكلمة فقط , أو أن يكون مشروط وبمحددات وضع لها قيود , والشعور هنا ليس كائن حي , هو شعور يخص الروح ومستقبلاتها , وفي مجتمع لا يعرف فيه سوى تعاليم سلطوية أبوية موجهة وضعت مسبقاً ضمن سياق ذكوري بحت , حيث يختبر الإنسان على قدرته على العطاء والوعي , وهنا تكون الخيانة ليست مجرد فعل شخصي , وإنما انعكاس للهيكل الاجتماعي للسلطة وللثقافة التي تشكل المجتمع والفرد .
الرواية تستفيد من المشاهد اليومية لحياة عفاف لتعميق الفهم النفسي والاجتماعي للشخصيات , فعلى سبيل المثال مشهد حضور عفاف لحفل زفاف , أو اجتماع الأهل والزوجات وحديثهن حول ما يحدث في بيوتهن أو علاقاتهن مع أزواجهن , تمثل لحظة مزدوجة و من جهة هو مشاركة اجتماعية في مناسبة جماعية , ومن جهة أخرى هو شعور بالعزلة والانكشاف الداخلي , هنا يبرز الصراع بين الفرد والمجتمع , بين الرغبة الشخصية والالتزام بالمعايير الاجتماعية , هذه اللقطات والمماثلة لها تشكل عمق الفكرة ومقصديتها , حيث يلتقى البعد النفسي بالبعد الاجتماعي , ويصبح القارئ ( ذات المجتمع ) جزءاً من تجربة البطلة لا مجرد مراقب .
الرواية أيضاً تعكس بعداً نقدياً لأدوار الجنسين , النص لا يكتفي الانكسار الفردي لعفاف ( المرأة المجتمع اليمني ) وإنما يظهر النظام بأكمله الذي يسمح بانكسار المرأة أو التلاعب بها من خلال المقابلات الداخلية والتأملات والخواطر فيها , يرى القارئ كيف تعيد عفاف ترتيب حياتها وفهمها للمجتمع , السلطة , الحرية , وللعلاقات مع من حولها , هذا التحليل النقدي يجعل الرواية أكثر من مجرد قصة شخصية , فهي نقد اجتماعي , ونص عن الحقوق الفردية , العدالة , والإنسانية .
رواية ( قلب حاف ) لـ " فكرية شحرة " من منظور الأدب النسوي العربي , تأتي ضمن سياق طويل من النصوص , واغلبها تسعى إلى كشف التجربة النسائية في المجتمعات المحافظة والتي تحكم سيطرتها على المرأة , ولكن اختلاف الرواية في اعتقادي أنها غاصت في البعد النفسي وبنائها الداخلي , وتصوير الوعي كبنية متحركة بين الصوت الداخلي للصوت الخارجي كي يبرز معنى الحرية الداخلية والنمو النفسي , صوت عفاف الداخلي مليء بالبوح والتأمل , بينما يظهر الآخرون وخاصة حازم بسطحية ومفتقداً الشعور ذات المسئولية داخل النص كأحد أفراد النظام , هنا النص يقدم رؤية وجودية أخرى , إذ أن البطلة من خلال السرد وتعايش التجربة داخلها وخارجها ( مع المجتمع ) تشرح أن كيفية عملها جعلها ترى مثل حازم عشرات الأشخاص في ورش عمل تخص الإنسانية ومنظمات المجتمع المدني والتنمية البشرية التي شاركت فيها , مرت بكثير من التجارب ووصلت إلى وعي الإدراك كانت تراهم نفس الشيء , الأساليب في الحديث , الشرح , التعامل مع المتدربين , وكأنهم نسخه موحده , وأصبحت تراهم عادي دون أي رؤية لاختلاف أو إعجاب , وهذا رمز للنضج ووعي التجربة , و دلالة على أن التجربة التي لم تكن موجودة في السابق داخلها هي من جعلتها تعيش حلم داخل مجتمع لا يقبل الأحلام , وأشخاص مثل حازم لا يعنيهم ضحايا هذا الشعور ولا تبعاته على الفتيات في ذات المجتمع , وكم أن المرأة اليمنية تتجاوز الكثير من المحددات والقيود والأحكام وأن تتولى مسئولية تمردها ونتائجه الكارثية , وفي بعض الأسر تصل إلى حد القتل , من أجل أن تعيش هذا الشعور الإنساني البحت , بينما الذكر لا يلقي للأمر أدنى فكرة أو مسئولية تجاه ما يقوم به , أو يدخل فيه وكأنه منزه من السماء .

في خاتمة الرواية , يمكن القول أن عفاف تمثل الإنسان في أبهى صور مقاومته للظروف , وأن الألم والمعاناة ليست أكثر من محطات عابرة , يصبحان مرايا صافية للذات , تكشف حدود الإنسان وقدرته على النمو والتحرر , كل خيبة وكل لحظة انكسار ليست نهاية , وإنما بداية لإدراك أعمق لمعنى الحياة والإنسانية , الحب , الوفاء , القوة , وأن الحقيقة ليست في السيطرة على الآخرين , وإنما في مساعدة الآخرين , وفي مواجهة الذات بصدق , وفي القدرة على تحويل التجربة إلى معرفة , والجرح إلى وعي , وعندما يكتشف القلب المكشوف قدرته على الرؤية والتأمل , عندها فقط يصبح الإنسان قادراً على استيعاب العالم كما هو , على فهم ذاته كما يجب , وعلى العيش في توازن بين الهشاشة والقوة , بين الانكسار والنهوض , بين الحرية الداخلية والمسئولية .

لا تكمن مهمة الرواية في سرد الأحداث , بل في القدرة على جعل القارئ يشهد ولادة جديدة للوعي , إنها دعوة لمراجعة علاقتنا بالآخرين وبأنفسنا , بالمجتمع ماذا أعطى الآخرين ؟ وماذا أعطانا ؟ وبعالم يبدو أحيانا غريباً لا نفهمه , هنا دور الأدب يصبح أكثر من حكاية , يصبح تجربة وجودية , رحلة نخرج منها ونحن مختلفين , أعمق وأكثر حضوراً في اللحظة التي نعيشها ..
      

Post a Comment

أحدث أقدم