المسرح المصري القديم

 د. عمر المعتز بالله 



المسرح المصري القديم
المسرح المصري القديم


بقلم: هاني منسي


في العيد العالمي للمسرح أحب أن أشير لكتاب مهم بعنوان المسرح المصري القديم، عن دار العين عام 2022، للدكتور عمر المعتز بالله - بموضوعية شديدة وبحث مضن تكشفه قائمة المراجع العربية والترجمات والمراجع بلغات أجنبية التي استند إليها- سعى المعتز بالله إلى تأصيل نشأة المسرح المصري القديم الذي يسبق المسرح اليوناني مدعما ذلك بأدلة أثرية من برديات ومخطوطات في مصر وخارجها التي تقودنا إلى نشأة المسرح الذي أنتجته الحضارة المصرية القديمة على عكس ما يشاع في العالم كله أن المسرح نشأ عند الإغريق وللأسف أخذنا نرددها في مدارسنا وجامعاتنا إلى الآن، لم ينف الكتاب ازدهار وتبلور ونجاح المسرح والدراما في بلاد الإغريق على يد إسخيلوس وسوفوكليس ويوربيدس وإنتاجهم الضخم، لكن هذا لا يعني إن بداية المسرح كانت إغريقية.

كما تناول الكتاب أنواعا مختلفة من النشاط المسرحي في مصر القديمة، وتوضيح الفرق بين الأسطورة المصرية واليونانية والعناصر المسرحية في مصر القديمة قبل أن تعرف اليونان والعالم كله لفظ المسرح، بل قبل أن يوجد لفظ الإغريق أصلا.

تناول المعتز بالله مسرحيات الأسرار المصرية، داخل وخارج المعبد، ومسرح التجوال الذي كان يطوف الشوارع وأنواع الأدوار التي يقومون بها أساسية وثانوية، وهناك الكثير من الأدلة على ذلك منها على سبيل المثال لا الحصر بردية برلين وبردية المتحف البريطاني وبردية الرامسيوم الدرامية، الدولة الوسطى، بالإضافة إلى الصور على جدران المعابد من طقوس دينية وأعياد واحتفالات، كما استخدم خياله الإبداعي، كفنان بالأساس، لإضافة صور توضيحية لبعض الاداءات المسرحية وتصميم الشخصيات التي استنتجها من المخطوطات والمراجع المتنوعة.

نرى القصة الأشهر في الأدب المصري القديم وهي قصة مقتل أوزيريس على يد أخيه ست، ثم قصة صراع حورس، ابن أوزيريس مع عمه واسترداد حكم مصر، ويبرز هنا عنصر الصراع واستمرت تيمة الصراع بين الخير والشر، والحياة والموت، والاختيار والاجبار، والجريمة والعقاب كعنصرين أساسيين عند المصريين القدماء.

الشيء الغريب إن عالم المصريات الفرنسي إيتين دريتون يرجى ظهور المسرح في مصر إلى عام 3200 قبل الميلاد، ويعرض أجزاء من المسرحيات، سماها المسرحيات المحتجبة، أو المحجبة، لأنها كانت تعرض أجزاء منها داخل المعبد، ولارتباطها بالطقوس الأوزيرية الدينية، لم يعتبرها مسرحا، ولم أفهم لماذا تحديدا ولم أقتنع بأسبابه التي أوردها، والعالم الألماني كورت زيته يرجع نشأة المسرح إلى نفس هذا العام تقريبا أما العالم الآثاري روسن يرى أن المسرح ظهر في مصر قرابة عام 3000 قبل الميلاد، أيا كان العام أو إلى أي مدى كانت دقته، وفي كل الأحوال، يخلص المعتز بالله إلى أن ميلاد المسرح في مصر القديمة حدث منذ قرابه 5000 عام تقريبا أو يزيد أي أنه يعد الأقدم في العالم حتى الآن، إذا ما قورن بظهور المسارح العالمية الشرقية منها والغربية ومن الأدلة التي استند إليها المعتز بالله على تلك النظرية ما كتب المؤرخ هيرودوت في القرن الخامس قبل الميلاد عن المسرح المصري حيث أشار الأخير في كتابه إلى قيام كهنة مصر القديمة بطقوس دينية وصفها بالعروض التمثيلية، استمدوا فيها قصص من الأحداث الدرامية في الديانة المصرية القديمة وهذا يذكرنا بالمسرح الكنسي الذي خرج من رحم الطقوس الدينية، الذي استمر في القرون الوسطى حتى يومنا هذا في شتى بقاع العالم والذي يقوم على إعادة لتمثيل حالات مختلفة من قصة السيد المسيح ومسيرته ومسرحيات المعجزات والمسرحيات الأخلاقية التي تعتبر النواة التي انبثق منها مسرح شكسبير فينا بعد، ولكن هيرودوت لم يذكر أو يوثق شاهدا على ما كان يحدث في تلك العروض المسرحية تفصيلا ولكنه اكتفى فقط بذكر تلك العروض على قصه إيزيس وأوزيريس رب الخير والحياة والنظام ويدخل في صراع مع أخيه ست هو رمز وهو رمز الشر والفوضى وينتصر الشر في بادئ الأمر بمقتل أوزيريس ولكن حورس ابن أوزيريس وريثه الشرعي لعرش مصر ينتقم لأبيه في تضافر بينه وبين أمه إيزيس التي قدمته لمجمع الآلهة في حركة تصحيح انتصار للحياه والخير والنظام على الشر والفوضى فيما يؤكد أن قدماء المصريين قد عرفوا فن الدراما والمسرح منذ القدم.

ثم يتناول الكتاب الدراما الجنائزية وكانت من أهم مراسم الحياة عند المصري القديم لذلك كان شديد الحرص على أن تتم تلك المراسم بصورة صحيحة وكاملة لأنها باختصار شديد تعد مرحلة مهمة من مراحل عبور المتوفي من العالم المادي الى الحياة الأخرى وهي تعد أول مرحلة في رحلته الأبدية.

ويتناول الدكتور المعتز بالله المظاهر السينوغرافية للجنازة فيبدأ موكب الجنازه عادة في الصباح لينطلق من بيت المتوفي فيسير الجميع خلف تابوت المتوفي الذي وضع فوق قارب أوزيريس الرمزي المرتكز فوق محفة تجرها الماشيه وبعض الخدم يتقدم الموكب الكاهن أو المرتل الذي يقرأ الأدعية ومن خلفه كهنة آخرون يحملون البخور ومن خلفهم من هم في حداد على المتوفى من رجال لم يحلقوا لحاهم ونساء يبدونا في حالة رثة وقد اهلن التراب على انفسهن وفي بعض الاحيان تقوم بذلك فرقة الناحات بالنيابة عنهن ومن خلفهن الخدم المحملون بالاثاث الجنائزي والقرابين.

يقدم المعتز بالله تطبيقا على مسرحية الحدأتان، جرتي، وهي مسرحية من فصل واحد ذلك النص، وهو نص درامي ثنائي محفوظ في المتحف البريطاني باسم بردية (برمنر رند) والتي وجب أن نسميها بردية (نس. مين) وهو اسم الكاهن الذي تم العثور عليها ضمن أثاثه الجنائزي عام 305 قبل الميلاد والذي يرجح إنها كانت تنتمي لعصور سابقة لهذا العصر ويتساءل المعتز بالله لماذا اختار المصري القديم الحدأة بالذات عن باقي الطيور أو الحيوانات، لم يختر المصري القديم اختيارات مطلقة أو عشوائية بل كانت اختياراته مبنية على فكر فلسفي قوي ليطبقه تطبيقا فنيا متقنا يؤكد به مضمون رسالته الرمزية. ثم يعطينا مؤلف البردية ملاحظات مهمة حول اختيار الممثلتين اللتين تقومان بدور الربتين فيكتب: "تختار فتاتين عذراوين ظاهرتي الجسد" ثم يعطي ارشادات سينوجرافية لتصميم الشخصيه فيقول: "قد حف شعر جسدهما وزين رأسهما بشعر مستعار" ثم ارشادات عن الاكسسوار "وتمسك كلتهما بدف في يدها" ارشادات تكررت أكثر من مرة في مواضع أخرى عن كتابة اسماء الشخصيات الدرامية فيقول "ويكتب على كتف إحداهما إيزيس وعلى كتف الاخرى نفتيس" ثم نعرف أن الممثلتين لابد لهما من أن تعرف كيفية الغناء " وتغنيان مقطوعات هذه الكراسة" مما يدلنا على أن العرض كان بمصاحبة فرقة موسيقية مما ويختتم المؤلف ارشاداته تلك بأن كل ذلك يحدث في حضرة الإله وقد نعد هذه الجملة المجازية عن وجود الإله أوزيريس في معبده كأي إله اخر داخل دار عبادته، كما تم تحديد مدة عرض هذه المسرحية 60 دقيقة، ومكان العرض في مع الأوزيريون، القاعة الرئيسية، والشخصيات، إيزيس ونفتيس والكاهن الراوي، ونوع العرض دراما ثنائية في قالب مسرح الغرفة.

إذا هناك طقوس تضم عروض تمثيلية قصيرة ابدعها المصري القديم لتأكيد معتقده الديني و وذلك لما تتضمنه تلك الطقس من مفردات مسرحية أساسية كالحوار والأزياء الخاصة والاقنعة ويؤدى أمام باقي المحنطين وفي حضور بعض من اهل المتوفى يكونوا مشاهدين لهذا العرض الدرامي المهم وفي الوقت نفسه يبكي اثنان من المعزين او احيانا واحد فقط بالقرب من المتوفى بينما تبقى ممثلتين تقومان بدور إيزيس ونفتيس في طرفي المشهد حيث يتخذ المتوفي دور أوزيريس المنتقل إلى العالم الآخر.

يتناول المعتز بالله في فصول مستقلة لكل من الرقص والأقنعة والاحتفالات والاعياد وتصميم الشخصيات والسينوغرافيا وتكوين العرض المسرحي وتصنيف العلامات السينوغرافية في مصر القديمة ومدلولاتها والمسرح كوسيلة اتصال ووسيلة تعليمية في مصر القديمة والملف التقني للعرض المسرحي، الدراما وتطورها في المسرح الاغريقي العناصر المسرحية في مصر القديمة الفرق بين الأسطورة المصرية واليونانية والدراما في البرديات المصرية القديمة ومسرحيات الأسرار المصرية، والممثل المصري القديم إمحب والدراما الجنائزية..
وذلك باستخدام المنهج الاستقرائي والتحليل الفني للعقيدة المصرية القديمة وما انتجته من فنون وأدب وذلك بأدلة أثرية من برديات درامية وغيرها من الشواهد الدالة التي فيها ما قد يقودنا الى تاصيل فن المسرح كمنتج حضاري مصري على عكس ما يقطع به الإغريق من نشاته في بلادهم.

يعد الكتاب مرجعا مهما لدارسي المسرح والمهتمين بالفنون والتاريخ ليس فقط لغذارة ما جاء من معلومات مهمة وموثقة، بل أهميتها تكمن أيضا في إعادة تصحيح وتحديث المعلومات الراسخة والجامدة من عشرات السنين وعلى يد المستشرقين، ومحاولة رد الحقوق المستباحة لأصحابها ورد إعتبار الفن المصري القديم، فهو قراءة موضوعية منهجية من باحث مصري مجتهد يكتب عن تاريخ أجداده الموثق على الجدران والمحفوظ في متاحف العالم. 

Post a Comment

أحدث أقدم